وصول سعيد الحزين/ بقلم :سيد غلاب ( مصر )

كان سائرًا بين الغيطان ليلًا، لا يدري كيف تحمل كل هذا، الأحلام كلها تتلاشى، ويبقى الكابوس الثقيل، ويبقى التكفير عن خطايا السابقين، الذكريات تسابقه وتتأخر عنه وتتجسد أمامه، تسير قدماه دون إرادةٍ منه، حتى صوت الطلق الناري الذي اخترق الصمت وأصابه بالصمم للحظات لم يثنه عن المضي قدمًا في طريقه، فالخطب جلل، وهو إن لم يبرئ ساحته أمام أولاد أعمامه، فسيدفع الثمن غاليًّا، فاتهامهم له صار رصاصة انغرست في قلبه وأردته.
***
– آلو مأمون … ! اسمعني أنا لم أقتله ، فهو ابن عمي…!
– لا، بل قتلته!
– لا، كان حادثًا، نعم، تشاجرنا في شقتي بالقاهرة، لكنني لم أقتله، لقد غادر شقتي حيًّا.
– كنت تعلم أنه مريض بالقلب، لِمَ تشاجرت معه؟ّ!
– هو من ثار علي، كنت أسأله عن الإرث.
– أنت قاتل يا سعيد … تيت..تيت .. تيت
تبًا للأجداد والأعمام تركوا هذه المشكلة دون حل لندفع نحن ثمنها، ماتوا واستراحوا، لنشقى بهذه المعضلة العصية على الحل، فقد مات أبي فقيرًا وكان في إرثه ما يغنيه عن الحاجة لكنه آثر السلامة.
***
عرقه كان ينزف بغزارة، الحرارة والرطوبة في قريته الصعيدية ينهكانه، وصرير الجداجد يثير في نفسه رعبًا زاد من وطأة العبء الذي يحمله، وبدأ الوهن يدب في أوصاله، تباطأت خطواته، بيوت القرية بدأت تظهر في الأفق، مسافة قصيرة ويصل، وجه أبيه بدت ملامحه هادئة، وسعيد يعيد عليه الحديث نفسه:
– مشكلة الإرث يا أبي إن لم تحل الآن، فلن تحل أبدًأ.
– يا ولدي هم إخوتي ولا أريد النزاع معهم.
– يا أبي … آآآآه
تبدلت ملامح وجهه أبيه ليرى أمامه وجهه ابن عمه مأمون، وهو يكرر العبارة نفسها:
– قاتل..!، قاتل ..، قاتل
– لا، لم أقتله، والله لم أقتله.
خيوط الصبح البازغ أضحت خيوطًا حمراء تتبعه أينما صار، والرعشة التي أصابته عندما سمع صوت الطلق الناري بدأت تتحول إلى ألم لا يحتمل، وبدأ الخدر يسري في جسده كله.
القرية دبت فيها الحركة، والليل لملم سدوله ليكشف عن وجه الشمس الذي أنار الأرجاء، وبدأ يرى أشباحًا تتحرك من بعيد…..، أولاده يلعبون حوله ويضحكون ضحكات مجلجلة ، وزوجته في إصرار:
– قلت لك لا تسافر يا سعيد، فهم يضمرون لك شرًا.
– لا، الدم لا يصير ماء، سيتفهمون الأمر.
ثم تتلاشى صورهم، لم يعد يدري أيسير على قدميه…!، أم يحبو…!، أم يزحف…، أم يطير في الهواء!، الجسد الذي يحمله لم يعد له، أصبح جسد شخص آخر.
يسمع صياحًا آتيًا من خلفه، أبوه وأعمامه في المندرة يتناقشون حول الموضوع نفسه، يتصايحون، يتشاجرون، فريق المزارعين يقول:
– الأرض لنا، وليس لكم أرض.
وفريق المهاجرين يرد:
– لنا مثل ما لكم.
وينتهي المجلس دون اتفاق، تلك عادتهم منذ سنوات.
الغيطان انتهت وبيوت القرية تقترب منه تارة وتبتعد أخرى، الأشباح التي كانت بعيدة بدأت تهرول نحوه، والشياطين بدأت تناجزه، الأطياف تتراقص من حوله، ومخلوقات نورانية في صفين ينقرون الدفوف، ليزفوا العريس القادم، يتخلل ذلك مشهد حشد من الناس تتحدث إليه لكنه لا يسمع منهم سوى همهمات لا يفهمها، همهات آتية من فضاء آخر من خلالهم رأى أباه الذي أتى مرحبًا به، وابتسامة الرضا على وجهه:
– حمدًا لله على سلامتك يا سعيد !
– عذرًا أبي، لقد وصلت متأخرًا
– لا يا ولدي، لقد وصلت في موعدك المحدد.
– أبي أنا لم أقتله ، لم أقتل ابن عمي.
– أعلم يا ولدي، دعك من هذا الآن، وتعال انضم إلي أنا وأعمامك في استراحتنا، لم يعد أمر الأرض يؤرقنا بعد الآن، فالأرض كلها لنا نتبوأ منها حيث نشاء، تعال تمدد بجواري، لقد حجزت هذا المكان لك منذ سنين، فنم، نم قرير العين يا ولدي ، واترك كل الهموم خلف ظهرك، فالرحلة إلى هنا أنهكتك، وأنت في مسِّ الحاجة إلى الراحة.

استلقى على ظهره وارتخت العينان، والحشد المجتمع حول الجثة الغارقة في دمائها يتبادلون الهمهمات في ذهول لا يدرون ماذا حدث؟!، وبعد زوال الدهشة .. أخرج أحدهم هاتفه المحمول، واتصل بالشرطة ليخبرهم عن جريمة القتل التي وقعت ليلًا.

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!