الناقد اليمني علي أحمد عبده قاسم يقف على قصة الشك للدكتورعبد العزيز الطلحي

” الشَّكَّ

يشدُّ قطعة قماش من القطيفة السوداء بإحكام على إطار من خشب طوله متر ونصف تقريبا ، و يرسم بأداة كالطبشورة دائرتين كدوامتين لا تبتلع إحداهما الأخرى ، يميل رأسه طربا مع موسيقى شرقية و خيال يتدفق من بين أنامله !
يعمل الخياط بتؤدة وحرفة مذ شكّ الإبرة في مركز الدائرة اليمنى ليضع حبة لؤلؤ صناعي بحجم حبة الحمص ، و يدير عليها حبات أصغر ، ثم أصغر و أصغر ، متجها يسارا ثم يستدير يمينا حتى إذا كان أسفل المركز الذي تشغله اللؤلوة انحدر بأطراف الدوائر نحو علامات تبدو كطباشير لمدرس رياضيات يشير لتوازٍ و استواء بشرطتين متقاربتين تميل أعلاهما نحو اليمين و تكاد تنزلق الأخرى إلى اليسار !
رأيته يفعل ذلك على مدى أسبوع في فترات متقطعة ، كنت اقتعد كرسيا من خوص في مدخل القهوة العتيقة في (برحة القزاز ) بعد أن أتناول ( الفتوت بالحليب الساخن ) في مدخل ( الهجلة ) الجنوبي .
هناك أكثر من مقهى يرتاده الناس الذين يعرفونني ، فألوذ بهذا صباحا ، كان الخياط يأتي للمقهى لأخذ ( براد الشاي ) إذا تأخر عنه ( القهوجي ) !
سألته ذات مرة عما يفعل في القماش الأسود ؟!
– فستان … !
– إذا انتهيت منه ، أريد أن أراه ؟
راقبته و هو يرسم جسدا يغيب و يظهر من أبرة شكّ .. انعطفات التطريز من الدائرة اليمنى ، تنساب بلمعان على جذع القماش باستواء .
يوما لقيته قد أنجز الدائرة اليسرى و يتجه بأسفل الدوائر المحيطة نحو الخشبة اليسرى للإطار و يقف بها على حافته .
صدر رحب ذلك الذي استدار جانباه في الأعلى بلا بروز ، الحقيقة أن انعطافة التطريز من الدائرة اليمنى إلى الخصر تنتشر كسنابل القمح نحو الساق اليمنى و تنبيء عن جسد فاتن ، لكن الأدهش تلك الرمال الؤلؤية التي نثرتها الإبرة في الجانب الأيسر من جسد القطيفة حتى الساق اليسرى مع تقوس يتسع في المنتصف مؤطرا قدرا من يقين محتمل !

تعجبت كثيرا من قدرة الخياط على أن يشكُّ جسدا على سطح مستوٍ خال من النتؤات .
و تصادف في طريقي للمقهى أن غيمة كانت تفضي للمكان بسرّها في قطرات تسمع وقعها على الرصيف الأسمنتي ، لألوذ محملا بالرذاذ و ورائحة النعناع و الحبق و الريحان التي تتبعني من ( سويقة ) بمدخل المقهى ملقيا التحية على الخياط لأرى على الحائط خلفه رحابة صدر معلقة و التفاف جسد يتلألأ على قطعة من الليل لم تفق بعدُ !
وفيما أنا أدني فنجان الشاي الصغير من شفتي ، لمحتُ الفستان بجوار امرأة أبدت هبوب المطر المنسابة إلى ( الخان ) بعض المخبوء في فستانها الذي يحمله بعناية رجل يرافقها ؛ تيقنتُ أن الخياط لم يحسن تطريز رحابة عينيها كما فعلتُ مع رشفة الشاي الأخيرة من فنجاني !!”

ثانيا القراءة:

من خلال قراءتي للنص وجدت بأنه يدل على قاص
محترف فلايخفى علينا أن البعض يكتب بلا تعمد لما يكتب ولما يقصد حتى التنقلات لدى البعض لاتكون متقنة خاصة وإنه في الغالب عند قراءة النصوص السردية القصة القصيرة والققج نجدها تتكون من ثلاثة أنساق أو ثلاث تنقلات ومن الملاحظ أن القاص التزم بذلك وباقتدار فالنسق الأول وهو بداية النص و تكون من التالي:
1- ( يشد قطعة من قماش القطيفة السوداء بإحكام على إطار من خشب طوله متر ونصف تقريبا)
2- ( يرسم بأداة كالطبشور دائرتين لاتبتلع إحداهما الأخرى)
3- ( يعمل الخياط بتؤدة وحرفة منذ شك في مركز الدائرة الأولى ليضع حبة من اللؤلؤ ويديرها أصغر وأصغر متجها بها يسارا …..الخ)
يظهر القاص للمتلقي البدايات مستخدما لترابط الحكي الفعل الفعل المضارع الذي سيطر على البداية وبين الأفعال المضارعة جاء بحروف العطف مخللا الأحداث بالوصف المتقن
النسق الثاني ويأتي بثلاث تنقلات ويسيطر عليه الفعل الماضي لأن الراوي في حوار داخلي ويأتي بحروف العطف
للترابط ويمثل ذلك وسط القصة وانتقاله للمكان والمجتمع ليزيل الرتابة ويشد القارئ لمتابعة القراءة
1- (رأيته ذلك على مدى أسبوع في فترات متقطعة كنت اقتعد كرسيا من خوص في مدخل المقهى. )
2 – (هناك أكثر من في المقهى يعرفونني فألوذ بهذا صباحا، كان يأتي الخياط للمقهى لأخذ براد الشاي أذا تأخر
سألته عما يفعل في القماش الأسود
– فستان
– أذا انتهيت منه، أريد أن أراه؟)
3- (راقبته وهو يرسم جسدا يغيب ويظهر من إبرة شك.)
وهنا أعيب عليه قوله : (وسألته والحوار المباشر الذي أوضح من رسم الخياط وهو ” الفستان” لأنه فضح نهاية القصة والمفترض يكون هنا استباقا فيتساءل بحوارداخلي عما يفعل ويحاول التوقع دون التصريح دون التصريح بأنه يصنع فستانا

النسق الثالث ويتمثل بالتالي :
وهنا يبدا بتقنية عالية بالانحراف عن المسار للقصة ليخلق المفاجأة ويخلق بين الفن التجاري والفن الصطنع حين ذكر الغيمة والمطر.
– ( تصادف في طريقي أن غيمة تفضي بسرها للرصيف الأسمنتي بقطرات تسمع)
– ( أرى على الحائط خلف الخياط رحابة معلقة صدر والتفاف جسد يتلالأ منها قطعة لم تفق بعد
– (لمحت الفستان بجوارةامراة ….. تقينت أن الخياط لم يحسن تطريز عينيها كما فعلت مع رشفة الشاي الأخيرة من فنجاني)
القاص أبدع في إتقان تنقلاته وتغيير مسارات النص باقتدار أعيب عليه حين ذكر الفستان في قوله( لأرى على الحائط خلف الخياط رحابة صدر معلقه والتفاف جسد على قطعة من الليل لم تفق بعد)
هذه نهاية سعيدة والمفترض تحذف هذه الجملة ليكون كسر مسار القصة مدهشا
وتأتي النهاية تكسر أفق المتلقي فلا يذكر الغاية إلا في النهاية.
قام القاص باحتراف بتنقلات وإنساق كتابية تستحق التأمل ولم يكتب بعشوائية بل كانت تنقلاته في الأحداث مركزة جدا فقد مزج الحدث بالوصف بالطبيعة وبالمكان
وإذا سألني أحدهم : أين المفارقات في النص والمتناقضات لم نرها؟
هناك مفارقات وثنائيات ضدية بين الراوي وبين المجتمع فهو يفضل الخياط على المجتمع لأنه يمتلك حسا فنيا وخلاقا ويهمل الرعاع وهناك ثنائية ضدية بين الجمال الحقيقي واللاحقيقي فأسرته غيمه وقطراتها وفتن بالرسم والحرفية ولم يفتن بالجسد الذي لايمتلك روح في الفستان فرأى فيه القصور و وإنه غير مكتمل فقد أدهشته” عينيها أكثر من الرسم وفي لحظة
وهناك ثنائية بين الكمال والنقص فالخياط رسم الجسد بليل وعجز عن رسم العينين فعلاقة الخياط بالفن تجارية وعلاقة الراوي بالفن روحية.
– استخدم الوصف بطريقة مذهلة حيث سيطر الوصف على النص وبلغة آسرة ليتناسب مع الفكرة والمشهد والفن ويجذب المتلقي.
جاء القص بكل نسق من ثلاث أحداث جزئية والنص ثلاث أنساق .
العنوان جاء معرفا” الشك” ليحيل للرسم والخياطة فقط
والمفترض أن يأتي نكرة” شك” ليفتح آفاق للتأويل ويتحول من عنوان مغلق إلى مفتوح.

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!