دلالة المكان في القصة القصيرة ” الشرفة” للقاصة البحرينية /شيماء الوطني

كتب : علي أحمد عبده قاسم . اليمن

أولأ النص:

(الشرفة
لا أدري ما الذي دفعني ذلك الصباح ،بعد أكثر من عشرين عاماً ،لأن أنعطف من الشارع العام ،لأدخل إلى أزقة غابت عن خارطة حياتي لوقت طويل .
لوهلة، ترددت في العودة إلى دروب بقيت تؤثث ذاكرة طفولتي بتفاصيلها .. لكن حنيناً غمرني في لحظة ما ،دون أن أجد تفسيراً له ،أرغمني أن أعود إليها مجدداً ، متساءلة إذا ما كنت سأستدل عليها ،أم أني سأتوه ؟
وبمجرد إن مشيت أول خطوة ،وجدت نفسي المستلبة تسير فيها دون مشقة ،وتكاد أن تعرفها حتى وهي مغمضة العينين .
الطرق التي ترتسم عليها خطوات طفولتنا يصعب إسقاطها من الذاكرة بسهولة !
لم تتغير الطرق كثيراً ، بقيت كما هي منذ أن كنت الطفلة التي تتشبث بظهر ابن خالتها وهو يضعها خلفه على الدراجة ، محاذراً أن يسقطها ،أو أخته التي تجلس أمامه .
نظل ندور في دوائر لا منتهية ،منتقلين من زقاق إلى الآخر ، هاربين بضحكاتنا المجلجلة من كلب الجيران الذي يلحقنا كلما رآنا !
بوصولي للزاوية التي ظننت أنه كان يطل عليها، توقعت أن أراه كما كان!
وجدته هناك يقف متحدياً الزمن ،رغم تصدعه .
لقد شاخ بيت خالتي !
كم تشيخ البيوت وتهرم حين يهجرها أهلها . تلك حقيقة لا مناص منها ..
هالني أن أرى الحالة التي طبعتها السنين عليه، تمتد التشققات على طول جدرانه ،فيما يشبه أخاديد محفورة في وجه عجوز عركتها السنين .
أظل ساهمة أمام البيت، وفي عقلي تنثال الكثير من الذكريات كصور سينمائية أحاول جمعها سريعاً في وقت واحد .
يقع بيت خالتي في حي راق ،تتجاور فيه منازل لمن كانوا يُعرفون بالأرستقراطيين يوماً. يميز تلك البيوت اعتناء أصحابها بنظافتها ،وجمال تنسيق حدائقها التي تمتد أمامها. ورغم أن بيت خالتي لم يكن كبيراً ،مقارنةً ببقية البيوت ،إلا أنه كان يساوي البيوت التي حوله في جمال التصميم والتنسيق .
في طفولتي، قضيت في هذا البيت، ولسنوات متتالية، معظم أيام العطلات الصيفية ، ما إن تقفل المدرسة أبوابها إيذاناً ببدء الإجازة ،حتى أحمل حاجياتي وأطلب من والديّ إيصالي لبيت خالتي هذا. كنت ابنة وحيدة لهما، وكانا يشعران بكم الملل الذي أشعر به عند بقائي وحيدةً في المنزل ، وكان لخالتي ابنان يكبران ابنتها الوحيدة التي تقاربني في العمر. عشنا كشقيقتين ،وصديقتين تتقاسمان حماقات الطفولة المضحكة .لم نعرف الشجار يوماً، ولم يحدث بيننا خصام قط .. نتشارك الملابس، كما تتشارك دميتانا ( الباربي ) الثياب .
لبيت خالتي ” شرفة ” مغطاة بسقف خشبي في الطابق الثاني . ،تحتل ثلث واجهته ،وتحملها أعمدة تغطي مدخل البيت . لم تكن مساحتها كبيرة ،ولكنها أنذاك كانت فضاءً فسيحاً بالنسبة لنا !
كانت الشرفة ملاذنا الأثير الذي احتضن ضحكاتنا وبراءتنا في فترة الطفولة ،وبئراً عميقاً أودعنا فيه أسرار مراهقتنا.
في أحد أطراف الشرفة ،رصت صناديق كارتونية جُمعت على مدى الأعوام ، تحوي الكثير من الأدوات المنزلية، والمجلات التي نُسيت مع الزمن ، وعلى الطرف الآخر استقرت أرجوحة بمقعد إسفنجي مهترىء مغلف بقماش أِصفر لونه بمرور الوقت مبتعداً عن بياضه الذي كان ، وعليه ظهرت ورود باهتة حمراء وزرقاء مطبوعة ، أما في المنتصف فقد وضعت طاولة صغيرة وكرسيان حديديان نهشهما الصدأ ،وعلى جدار الشرفة علق زوج خالتي لوحاً أسود ،كنا نكتب ونرسم عليه بالطباشير الملونة .
كانت تلك هي تفاصيل الشرفة التي ما مللنا يوماً من الجلوس فيها. فمنذ الصباح الباكر ،نحتل الكرسيين الحديديين ،وفي يد كل منا دميتها، ونبدأ في ترديد حوارات متخيلة لحياة مختلفة . تتراءى لنا عبر نافذة الجيران ظلال الجار وهو يقبِّل زوجته مغادراً نحو العمل ، تحمر وجنتانا خجلاً ونستمر في اللعب.
نتنفس عبق شجرة الياسمين المتشبثة بسور الشرفة ، نرسم ونكتب بالطباشير الملونة على السبورة السوداء، تراودنا بين حين وآخر أفكاراً مجنونة ،قد نحضر الكثير من الطحين ونبدأ في عجنه بالماء والسكر، ونقطعه بأدوات المطبخ البلاستيكية الصغيرة ،لنصنع البسكويت ،الذي ترفض خالتي خبزه في الفرن ،فنضطر إلى رميه !
بعد سنوات انقضت فترة طفولتنا ، لكننا لم نتوقف عن الجلوس في الشرفة ، نجلس فيها كما اعتدنا ؛نطالع المجلات ،ونستمع للأغاني ، نتحدث عن أحلامنا ،ونرسم حياتنا القادمة .
على الجهة المقابلة لبيت خالتي، قام أحدهم بتحويل كراج سيارته بعد توقفه عن قيادة السيارات إلى بقالة صغيرة ، ظل صبية الحي وشبابه الذين يقاربونا في السن يفترشون الأرض أمامها .
وهنا بدأت المشكلة التي فرّقت بيني وبين ابنة خالتي فيما بعد !
نشأت علاقة حب بين ابنة خالتي وبين أحد الفتية الذين يترددون على البقالة ،وكثيراً ما كنا نراه يظل واقفاً رافعاً رأسه، ينظر إلينا ونحن جالستين في الشرفة .
في البداية ،ظل الاثنان يتبادلان النظرات والابتسامات البريئة ، ولكنه أقدم في أحد الأيام على كتابة رسالة تجرأ على رميها في الشرفة، بعد أن لف ورقتها على قطعة حصى صغيرة .
اعترف في تلك الرسالة بالحب لابنة خالتي ،وكتب كلمات غزل ساذجة جعلتها تقفز فرحاً .
أبديت إعتراضي على كل ما يحدث ، أخبرتها أنها مازالت صغيرة ،وأن عواطفها ليست حقيقية، بل هي مشاعر مراهقة ،دغدغتها بضع كلمات معسولة مزيفة ،كنت خائفة عليها، وشعرت بأنها قد وقعت ضحية لهذا الشاب الذي عرف كيف يتلاعب بعواطفها ،وحاولت أن أُثنيها وهي تهم بكتابة رسالة الرد إليه .
وفي لحظة جنونية تشاجرنا ،وعَلت أصواتنا لأول مرة ، وفي غمرة الجدال اتهمتني ابنة خالتي بأني ما عارضتها إلا بسبب الغيرة ، فلو كانت رسالة الشاب قد وجهها لي لفرحت بها ولم اعترض.
شعرت بالغضب والمهانة ، وأسرعت للهاتف طالبةً من والدي أن يحضر ليرجعني إلى بيتنا. لم تستوقفني، وأشاحت بوجهها عني، فيما بقيت أجمع حاجياتي.
كانت تلك هي المرة الأخيرة التي دخلت فيها بيت خالتي ، والمرة الأخيرة التي تبادلنا فيها نحن الاثنتان الكلام .
وما بين دهشة أهلنا ،وتساؤلاتهم المتكررة لمعرفة ما حصل بيننا ، ظللنا نحن الاثنتان صامتتين ،وكأن صمتنا كان اتفاقاً تم فيما بيننا .
فرقت بيننا السنوات ، وحتى المناسبات العائلية التي كانت تجمعنا تبقى فيها كل واحدة بعيدة عن الأخرى ، نتحاشى فيها حتى السلام .
بعد سنوات التقيت في أحد المحلات التجارية بالشاب الذي أحبته ابنة خالتي -وكان سبباً في فراقنا- ، كان يتسوق بصحبة زوجته وابنته الصغيرة .
حزنت يومها ، أن ما توقعته قد حدث ، وفكرت أن أعاود الاتصال بابنة خالتي لاسترجع معها صداقتنا ، بل أخوتنا التي ضاعت منا .
لكن محاولتي باءت بالفشل ،فقد اعتبرت ابنة خالتي اتصالي بها كان بدافع التشفي والشماتة .
غادرت خالتي البيت الذي عشنا فيه طفولتنا إلى بيت آخر، وبقيت القطيعة بيننا، ولعشرين عاماً تالية، بقيت ذكرى الأيام التي جمعتنا محفورةً في ذاكرتي ، يوقظها كل حين مروري بمحاذاة تلك المنطقة السكنية .
أحزنني اليوم أن أرى البيت متداعياً ومتهالكاً ، مثله مثل علاقتنا نحن الاثنتين ، أتأمل الشرفة فلا أتعرف عليها ، أراها وقد ضاقت ،حتى وكأنها لا تحتمل موقع قدم ، أفتش عن شجرة الياسمين التي اختفت من البيت هي الأخرى …
أغمض عيني وافتحها من جديد ،فيتراءى لي طيفنا ونحن جالستين على الأرجوحة ،نتبادل الضحكات والأسرار.
ابتسم ،وأركب سيارتي مغادرةً المكان)

ثانيا القراءة:
المكان في ” الشرفة”

قرأت النص أكثر من مرة فوجدت أن المكان هو العنصر المسيطر على فكرة النص خاصة والمكان جاء وله علاقة بالذاكرة والطفولة كما جاء في الحكي وهو مكان متجذر في الذاكرة ويشير إلى علاقات اجتماعية قوية تسودها المحبة.
” ترددت في العودة إلى دروب تؤثث طفولتي بتفاصيلها.، الطرق ترتسم عليها خطوات طفولتنا يصعب إسقاطها من الذاكرة ، لم تتغير الطرق كثيرا كما هي منذ كنت الطفلة التي تتشبث بظهر ابن خالتها وهو يضعها خلفه على الدراجة محاذرا أن يسقطها أو أخته التي تجلس أمامه.”
وإذا كان الفضاء السردي هو مجموعة الأمكنةفي القصة، فإن الراوي استطاع أن يرسم الفضاء بدقة من خلال بداية القصة ويلحظ من خلال التصاعد والرسم للمكان حتى بلوغ المكان الروحي الذي لم تنسه الذاكرة.

– 1 رسم المدخل:
” لاأدري ماالذي دفعني ذلك الصباح بعد عشرين عاما لأن انعطف من الشارع العام لأدخل أزقة.”

-2 – رسم الطرق:
” الطرق ترتسم عليها خطوات طفولتنا ولم تتغير”
3- رسم الأزقة:

” نظل ندور في دوائر منتهية هاربين من زقاق إلى آخر”
– الوصول للبيت :
” بوصولي للزاوية التي ظننت أنه كان يطل عليها توقعت أن أراه كمان!
وجدته هناك متحديا الزمن رغم تصدعه. لقد شاخ بيت خالتي.”
5رسم الموقع
” يقع بيت خالتي في راق تتجاوز فيه منازل لمن كانوا يعرفون بالأرستقراطيين يوما”
– 6 المكان الروحي: وهو مكان الذاكرة الطفولية والمحبة والألفة والعلاقات الاجتماعية الأليفة والقوية.

” لبيت خالتي” شرفة” مغطاة بسقف خشبي….. لم تكن مساحتها كبيرة لنا.
كانت ملاذنا الأثير الذي احتضن ضحكاتنا وبراءتنا وبئرا عميقا اودعنا فيه أسرار طفولتنا.”
مماسبق يلحظ أن المكان كان متآلفا مع الروح بكل الأمكنة المتعددة في النص من الشارع إلى الأزقة إلى البيوت والبيت والشرفة وشجرة الياسمين والكراسي والسبورة فمثل فضاء الأمكنة اللحظة السعيدة للشخصية والتي مثلت أيضا الخصوصية الروحية للشخصية خاصة والشخصيات رهينة عالمها فأبرزت الأحداث علاقة متآلفة بكل من حولها.
ليتغير من مسار الأحداث من المكان” الشرفة” من الألفة للكراهية ومن القرب للبعد ومن القوة للضعف.

” نشأت علاقة حب بين أحد الفتية الذين كانوا يترددون على البقالة وابنة خالتي وكثيرا ماكنا نراه يظل واقفا رافعا راسه في البداية ظل الاثنان يتبادلان الابتسامات البريئة لكنه أقدم في احد المرات على كتابة رسالة بعد لفها بقطعة حصى
أبديت اعتراضي … تشاجرنا في لحظة جنونية وفي غمرة الجدال أتهمتني بأنني مارعاضتها إلا بدافع الغيرة .شعرت غادرت بيت خالتي وبقي الخصام بيننا لمدة عشرين عاما”
ومن تلك المفارقات
– لم نعرف الخصام او الجدال/ تشاجرنا
-( التقيتها / نتحاشى السلام.
– في سنوات طفولتي قضيت معظم العطلات الصيفية في بيت خالتي/ شعرت بالمهانة غادرت بيت خالتي.)
وهذا نجاح في كبير للقاصة في خلق المفارقات والمكان كثف الزمن في النص.
” ذات صباح ء+ بعد عشرين عاما ذ+ قضيت معظم العطلات الصيفية ” وغير ذلك
استطاع المكان أن يبرز الأحداث ونفسيات الشخصيات وعقلياتهم ونضجهم بوصفه وعاء الأحداث وجاءت الأمكنة متآلفة حينا وحينا متنافرة العلاقات فتحول المكان الأليف للمكان الطارد والمنفر وغير المرغوب ومقل العلاقات الاجتماعية الضعيفة والتي بلغت حد الشتات والتمزق.

ملاحظات:
لي بعض الملاحظات وهي:
– جاء الحوار داخليا بضمير الغائب والأنا وعلى وتيرة واحدة والمفترض في الشجار الاخير يكون الحوار مباشرة
بين الشخصيتين ومشهد الاتصال يكون بحوار مباشر كوجهة نظر
– التصريح بالقول” فرقت بيننا السنون وحتى المناسبات العائلية هذا خطأ المفترض تحذف ذلك.
لأن الأحداث ستوضح ذلك.

– كانت تلك المرةالأخيرة التي دخلت فيها بيت خالتي هذا يجب ان يحذف فالأحداث اللاحقة سيوضح ذلك دون التصريح بذلك
– النهاية باردة وغير صادمة والمفترض تكون
” على الرغم من التداعي … فقد رأيتنا جالستين على الشرفة نتبادل الضحكات والأسرار قبل أن اركب سيارتي مغادرةذ”
– يفتقر النص للتكثيف فهناك تفاصيل وتكرار يجب ان تحذف.كمثل” رؤية الشاب في محل تجاري وله طفلان وزوجة وعللت الاتصال بالتشفي ذكر التعليل مباشرة”
وأيضا وصف الحي بأنه حي ارستقراطي وهذه مباشرة والمفترض أن يكتفي الراوي بوصف تنسيق المنازل وطوابقها وهنا سيكتشف القارئ بأنه حي راق وثري.
– العنوان جيد فهو عنوان مكاني مثير ومعتل وله إثارة على الرغم من أنه جاء مشكوفا.
– تناولت القاصة فكرة ذاكرة الطفولة بزمانها الجميل ومكانها وأثرها العميق في الروح وتناولت العلاقة العاطفية المخادعة وغيرة النساء من بعضهن وهذه جرأة في حد ذاتها وكل ذلك من خلال الارتباط والعلاقة
بالمكان والزمان.
– التنقلات مابين الماضي والحاضر متقنة.

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!