سلطان العارفين ابن عربي/إعداد وبحث : نوار الشاطر

آفاق حرة للثقافة

خُصصتُ بعلم لم يخصَّ بمثله

سواي من الرحمن ذي العرشِ والكرسي

وأشهدتُ من علمِ الغيوبِ عجائباً

تصانُ عن التذكارِ في عالم الحسِّ

فيا عجباً إني أروحُ وأغتدي

غريباً وحيداً في الوجود بلا جنسِ

لقد أنكر الأقوامُ قولي وشنَّعوا

عليَّ بعلمٍ لا ألومُ به نفسي

فلا هم مع الأحياء في نور ما أرى

ولا هم مع الأموات في ظلمة الرمسِ

فسبحان من أحيى الفؤاد بنورِه

وأفقدهم نور الهدايةِ بالطَّمسِ

علومٌ لنا في عالم الكونِ قد سَرَت

من المغربِ الأقصى إلى مطلع الشمس

تحلَّى بها من كان عقلاً مجرَّداً

عن الفكرِ والتخمين والوهم والحدس

وأصبحتْ في بيضاءَ مثلي نقيةً

إماماً وإن الناسَ منها لفي لَبسِ

هذه الأبيات التي رددها ابن عربي ونقشت على ضريحه وذاع صيتها بين الناس .

فمن هو ابن عربي ؟ وماهي العلوم التي خصه بها الله عزوجل ؟

ابن عربي من كبار المتصوّفين وفلاسفة علم الكلام في الإسلام، وهو الإمام مُحْيي الدّين محمد بن علي الطائي الأندلسيّ .
هو عالم روحاني وشاعر وفيلسوف،
لقبه أتباعه ومريدوه من الصوفية بألقاب عديدة، منها: الشيخ الأكبر، رئيس المكاشفين، البحر الزاخر ، بحر الحقائق، إمام المحققين، محيي الدين، سلطان العارفين ، الكبريت الأحمر ، إمام المتقين، ومربي الشيوخ والمريدين وإليه تنسب الطريقة الأكبرية الصوفية .
يعتبر ابن عربي واحداً من كبار المتصوفة والفلاسفة المسلمين على مر العصور.
وُلدَ في الأندلس عام 1164م، في مدينة مرسية من أب عربي طائي وأم عربية خولانية .
كان أبوه علي بن محمد من أئمة الفقه والحديث، ومن أعلام الزهد والتقوى والتصوف.
وكان جده أحد قضاة الأندلس وعلمائها، فنشأ ضمن جو ديني.
انتقل والده إلى إشبيلية حيث كانت عاصمة من عواصم الحضارة والعلم في الأندلس ،وما كاد لسانه يبين حتى دفع به والده إلى أبي بكر بن خلف عميد الفقهاء، فقرأ عليه القرآن الكريم بالقراءات السبع وقرأ عليه كتاب الكافي، فما أتم العاشرة من عمره حتى كان ملماً بالقراءات والمعاني والإشارات ثم سلمه والده إلى طائفة من رجال الحديث والفقه .
في قرطبة تكشف لابن عربي معارف أقطاب العصور البائدة من حكماء فارس و الإغريق كفيثاغورس و أمبيذوقليس و أفلاطون و هذا هو سبب شغفه بالاطلاع علي جميع الدرجات التنسكية في كل الأديان والمذاهب عن طريق أرواح رجالها الحقيقين بهيئة مباشرة .
لم يكن ابن عربي ميالًا في بادئ الأمر للتصّوف والزّهد، بل كان يشغل نفسه بالآداب ورحلات الصّيد الّتي رافقه بها خدم أبيه، كما نال وظيفة كاتب في بلاط حاكم إشبيلية وتزوّج. إلا أنّه في تلك السّنوات كانت دائمًا ما تراوده رؤى وتظهر له إشارات عديدة تدعوه لشيء لم يفهمه، وفي احدى الرؤى تراءى له طائر بديع الصنع يحلّق حول عرش عظيم محمول على أعمدة من اللهب، اقترب الطائر منه وهمس في أذنه: “ارتحِل شرقاً وأنا سأكون مرشدك السماوي، بينما سينتظرك رفيق بشري من مدينة فاس”.
بسبب هذه الرؤيا، ارتحل من مدينته مرسيَّة ليجوب في بلاد الشرق ثلاث وعشرين عاماً، ويصبح واحداً من كبار المتصوفة والفلاسفة المسلمين على مر العصور.
جاب العديد من البلدان فمن غرناطة التي التقى فيها شيخه أبي محمد عبد الله الشكاز .
إلى مكة التي استقبله فيها الشيخ أبو شجاع بن رستم الأصفهاني
،وتزوج فيها ابن عربي من ابنته نظام التي اتخذ منها رمزاً ظاهرياً للحكمة الخالدة ،وبعد زواجه منها ساهمت نظام في تصفية حياة ابن عربي الروحية وكانت ملهمته التي كتب في مدحها أحد أروع أعماله الشعرية على الاطلاق ديوان”  ترجمان الأشواق” .
كما كتب لاحقاً كتابه الجامع الخالد ” الفتوحات المكية ” الذي ضمن فيه أهم أرائه الصوفية والعقلية ومبادئه الروحية.
وفي الطائف وفي زيارته إلى بيت عبد الله بن العباس ابن عم رسول الله محمد (ص) استخار الله وكتب رسالة” حلية الأبدال ”  وفيها شرح لمن يريد أن يسلك طريق الأبدال .
تابع ابن عربي ارتحاله إلى الموصل وهناك جذبته تعاليم الصوفي الكبير علي بن عبد الله بن جامع الذي تلقى لبس الخرقة عن  الخضر مباشرة، ثم ألبسها لمحيي الدين ابن عربي بدوره.
وفي العام نفسه زار قبر رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم .
ولباس الخرقة هي لباس التقوى وكان ابن عربي قد لبسها قبل ذلك على يد شيخ آخر هو تقي الدين عبد الرحمن بن علي بن ميمون النوروزي ، كما لبسها من يد الخضر نفسه باتجاه باب الكعبة .
ويرى ابن عربي أن مرتبة الخضر في الدولة الروحية هي الوتدية،و عن لبس خرقة التصوف يقول الشيخ الأكبر : جرت عادة أصحاب الأحوال إذا رأوا أحداً من أصحابهم عنده نقص في أمر ما، وأرادوا أن يكملوا له حاله يتحد به هذا الشيخ، فإذا اتحد به أخذ ذلك الثوب الذي عليه في ذلك الحال ونزع وأفرغه على الرجل الذي يريد تكملة حاله ويضمه فيسري فيه ذلك الحال فيكمل له ذلك الأمر ،فلذلك هو اللباس المعروف عندنا والمنقول عن المحققين من شيوخنا.
تنقل بعدها ابن عربي بين القاهرة و مكةو دمشق و قونية وأرمينيا.
تابع ابن عربي تنقلاته بين البلدان لكنه اختار دمشق لتكون نهاية الترحال والمستقر الآمن الذي أراد فيه أن يقضي بقية حياته .
هذه المدينة العريقة التي تمتلك سراً روحياً عظيماً جعلها على مر الزمن مثوى للأنبياء والأولياء والصالحين وأهل العلم والعرفان ومنهم ابن عربي الذي أحب الشام حباً عميقاً ، وعن ذلك يقول الشيخ الأكبر :

ولما دخلت الشام خولطتُ في عقلي
فلم أرَ قبلي في الهوى عاشقاً مثلي

عشقتُ وما أدري الذي قد عشقته
أَخالقي المحبوب أم هو من شكلي

ولا سمعَتْ أذناي قط بذكره
فهل قال هذا عاشقٌ غيرنا قبلي

فجُبت بلادَ الله شرقاً ومغرباً
لعلِّي أرى شخصاً يوافقني، علّي!

وأقام في دمشق1223م ـ 1240م ،
وكان له مكانة مرموقة بين أهله وعلمائها وأمرائها، ومنها انتشرت علومه وتعاليمه، حيث كان أمير دمشق حينها أحد تلاميذه ومن المؤمنين بعلمه ونقائه وعاش حياته في دمشق يؤلف ويعلم وكان واحداً من كبار العلماء بين أهل العلم والفقه في دمشق، والتقى به عدد كبير من العلماء والطلاب من جميع أنحاء المعمورة ومن أبرزهم الشيخ جلال الدين الرومي صاحب المثنوي، وفي دمشق دون وكتب مراجعاته ومؤلفاته وكان له مجلس للعلم والتصوف في رحاب مجالس دمشق وبين علماء الفقه والعلم بدمشق ومدارسها.
في دمشق وجد الشيخ الأكبر احتفاءً كبيراً من قبل عائلة بني الزكي الذين اشتهروا بمنصب قاضي القضاة وقد خصصوا له معاشاً، وكانوا يحضرون دروسه .
في ليلة يوم الجمعة في التاسع من تشرين الثاني عام 1240 ميلادي توفي الشيخ محي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي عن عمر يقارب الثمانية والسبعين سنة .
وكانت وفاته في دار القاضي محي الدين ابن الزكي، وحُمل إلى جبل قاسيون ودُفن رحمه الله تعالى بتربة بني الزكي في سفح الجبل .

توفي سلطان العارفين تاركاً مؤلفات زادت عن 800 مجلد في الشعر والفلسفة والفقه منها :
كتاب الفتوحات المكية المكوُن من 37 سفر و560 باب ، كتاب فصوص الحكم ، كتاب ترجمان الأشواق ، كتاب شجرة الكون ، كتاب الإعلام بإشارات أهل الإلهام ، كتاب اليقين ، كتاب تفسير ابن عربي للقرآن الكريم ،كتاب لوازم الحب الإلهي ، كتاب إنشاء الدوائر ،كتاب الميم والواو والنون ، وغيرها العديد بالإضافة إلى العديد من الرسائل والمخطوطات ، والعديد من النظريات التي اشتهر بها : ختم الولاية، الأعيان الثابتة، المراتب السبعة، التنزلات الستة ،الإنسان الكامل ،الحقيقة المحمدية .

مضى ٨٠٠ عام على وفاة البحر الزاخر ، ولا يزال المداد الذي ينهل منه الجميع ولا يزال إلى الآن محط اهتمام العرب والغرب ولا تزال مؤلفاته قيد الدراسة والترجمة ، وهذا يفسر قول ابن عربي المعروف :
في كل عصر واحد يسمو به وأنا لباق العصر ذاك الواحد .

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!