قراءة في ديوان “قلق أنا” للشاعر عبدالرحيم جداية. بقلم. د. ريمان عاشور

لصحيفة آفاق حرة
______________

شاعرٌ قلقٌ في جبِّلته.. صوفيٌّ في فكره.. رومانسيٌّ في لغته..
سيميائية العنوان..
منذ عتبة الديوان “قلق أنا” نقف عند الخطاب الأول الذي أراد الشاعر إيصاله إلى المتلقي..
ولأنَّ التقديم والتأخير أسلوبٌ عربيٌّ يحدث تعالقًا بين مبنى الجمل ومعناها؛ فإننا نجد في تقديم كلمة قلق على الضمير أنا رسالة ابتغى الشاعر تحقُّقها وتثبيتها في نفس المتلقي: ألا وهي التركيز على فعل القلق قبل الملكية المتحققة والكائنة في الضمير(أنا)..
لن أقف هنا عند الجانب النفسيِّ لمعنى القلق، فقد أضيء هذا الجانب في حفل تكريم هذا الديوان..
إلا أنني أسعى نحو إثبات ما ذهبتُ إليه في كون القلق حالة مرافقة للشاعر جدَّاية في الديوان كلِّه رغم تباعد المسافات الزمنية بين القصائد التي وردت في الديوان ..
وإنما لم تأتِ قصيدة “قلق أنا” إلا تتويجًا لذاك القلق باعتراف مباشر من جداية وصريح دون مواربة..

كان ذلك كذلك لأنَّ جداية له دمان: دم شاعر ودم ناقد.. ومما لا ريب فيه أن عين الناقد فيه ترقب فعل الشاعر.. وإن كانت لا تقوى على التأثير فيها أو تغيير مجرى فعلها أو حتى توجيهها.. ذلك أنَّ الشعر الصادق يأتي منسابًا كما انهدار ماءٍ في شلال من أعلاه إلى أسفله.. وليس قوة بشريَّة تقوى على إيقافه وتغيير طبيعته..

إلا أنه حين يعيد ترتيب أشيائه يتقن ترتيبها بعين الناقد العارفة الحصيفة.. مما يجعل المتلقي يقف طويلًا متأمِّلًا مواطن التقديم هنا والتأخير هناك والأساليب اللغوية الواردة بكثرة والمنبئة عن ظاهرة لغويَّة في قصيد جداية تؤكِّد على حالة القلق غير المفارقة عند الشاعر..

هذه الظاهرة اللغويَّة كان الديوان ضاجًا بها..
بل يمكننا القول بأنها سمةٌ أسلوبيَّةٌ خاصة بجداية تبني جسرًا بين مبناه ومعناه..
بل بين لفظه وجوهره هو نفسه : إنسانًا ثم شاعرًا يُفصح عن لسان حاله وينقلنا إلى عالمه النفسيِّ دون أن يتقصَّد ذلك أو يتعمَّده..
إنما الشعر وسيلته المتوسِّل بها.. وغايته للكشف عن أعماقه وطبيعته.. ثم إفراز ثقافته المستقاة بعد امتزاجها بطبيعة جداية وجبِّلته التي خُلق عليها..
تلك السمة الأسلوبية هي الاستفهام.. الذي لا تكاد قصيدة تخلو منها..
وهو غالبًا يلجأ إلى حرف الاستفهام( هل) بعد كل خبر يُخبر عنه في قصيده.. وحرف الاستفهام هل يأتي لطلب التصديق وحسب..
حيثُ تُجبره طبيعته القلقة على التساؤل الذي يطالب بتصديق على قوله.. وكأنه قابع في حيِّز الحيرة غير مفارق..
والشواهد كثيرة كثيرة في ديوانه.. لعلَّ أكثر ما بانت في قصيدة:” هذا ما ذكرته الريح”..

هل أنتِ منْ
رصدالسنين العابراتِ من الشمال إلى الشمالْ؟
هل تعرفين حكايتي؟
بين الجهات تشتّت
كالرعد إنْ برق الكلامُ
على الرصيفِ
فهذه لغتي إذا اشتدّ اليبابْ

وكذلك في قوله في القصيدة عينها:

هل كنتِ شبّاكي
وكانتْ رحلتي
يوم استكان الريحُ
في دمنا المقطِّر
والرضابْ
أغلقتُ نافذتي عليْ
أغلقت عيني خلفها
وطرقتُ بعدك ألف بابْ

ولعلَّ تعالق القلق بين المعنى والمبنى أكثر ما سطع في هذه القصيدة “هذا ماذكرته الريح” حين جاء أسلوب الاستفهام على هيئات عدة..
أنا لستُ إلا… من أنا؟
ثمَّ في قوله:
أنا لستُ أنتَ.. فمن أكون؟
***

كنت كلَّما أعدتُ قراءة هذا الديوان ذات مساء أقضَّ مضجعي وأعملَ فكري وأشغلَ ليلي..
فأعيد تشكيل العالم من حولي احتذاء بفعل جداية.. لدهشة تصيبني بعد كلِّ تأمُّل ووقوف عند إحدى قصائد ديوان “قلق أنا” وقفةً هادئةً متمعِّنةً خاشعةً أمام جمال الحالة الشعوريَّة التي دفعني الشاعر إليها في قصيده..
ثمَّ أغفو..
ليتسلَّل إلى أحلامي ويشرِّع مصارع نافذة إشراقاته ليلة بعد ليلة أمام كل قصيدة سحرني جمالها ولوَّحت لي أن اكشفي عن سرِّ جمالي قبل أن تغادري إلى أخرى..
في هذا الديوان الضاجِّ بالجمال والمتزين بحليٍّ تباين في شكله وتقنيته ولونه ومبناه ومعناه.. ازدانت به القصائد ثمَّ جعلتني أقف أمام سوق صاغة أبتاع مجوهرات وأحجار كريمة وأضمُّها إلى جعبتي.. لأميط اللثام عنها جميعًا حين تدق الساعة..

إنَّ جداية شاعرٌ قلقٌ في جبِّلته.. عميقٌ في نظرته.. صوفيٌّ في فكره.. رومانسيٌّ في منهجه ومفرداته الحاضرة في قصيده.. الناثرة نفح عطر الرومانسيَّة أينما أصغينا إلى وقع خطانا ونحن نقفز على إيقاع الكون من خلال رؤيته ومن زاوية عينه التي أعادت ترتيب الكون ترتيبًا يريحه ويستكين إليه..

لعلَّ قصيدة (مناسك الأشياء) هي القصيدة التي جعلتني حبيستها ليلة بعد ليلة..
لا أنا قادرة على مغادرتها بأمان، ولا أنا الواضعة يدي -بَعد- على مواطن الجمال والفتنة فيها..
كنتُ أراها وأبصرها.. تراودني.. تدنو منِّي ثم تفرُّ ثانية لتعيدني إلى نقطة الصفر ..
إلى نقطة مرحلة التأمُّل وشحذ عقلي وفكري لأعيد الوقوف عند التفاصيل من جديد وأقوى على التقاطها ثمَّ تعريفها..

كان التحدي بيني وبينها نابعًا من عين ناقدٍ تنظرني من داخل النص وتقارع عين الناقد فيي ثمَّ تراوغ وتختفي وراء شاعريَّة القصيدة ودم الشاعر الذي سكن قصيدةً صوفيَّةً سجنتني داخلها في حضرة صوفية معتدلة متوازنة.. متأمِّلةً الكون وما فيه و(معاندة الظواهر الفيزيائية) فيه..

لستُ أعلم حقًا كيف تعمل دواخلنا على مزج دم النقد بدم الإبداع والأدب أثناء ولادة النصِّ الإبداعيِّ لتنتج دمًا هجينًا مراوحًا بين هذا وذاك..
إلا أني أكاد أجزم أنَّ الشاعر جداية يفور دم الناقد في داخله حين تنولد قصيدة على يديه والعكس بالعكس حاصل ..
فلن يخلو تحليلٌ نقديٌّ لجداية من نظرته شاعرًا قادرًا على تفسير ظواهر تبَّدت في النصِّ الشعري..

عودة إلى قصيدة (مناسك الأشياء) ..

حين وقفت عند هذه القصيد تحديدًا وبعد تكرار قراءتها مرات ومرات.. كلما حاولت الانفكاك منها أَبَتْ.. لمجال مغناطيسي يحكمها في شكلها الدائري الذي رسمه جدَّاية بالكلمات والصور الشعريَّة ثمَّ أحكم إغلاقه بمناولة حدثت بين مفردات الطبيعة.. كلٌّ منها يناول الآخر داخل هذه الدائرة بعد أن يفصح عن مشهديته..

رأيتني مُحاطة بما يُشبه دائرة درويشٍ يدور ويمور داخلها ليصل إلى مرحلة التجلِّي والكمال..
ثمّّ يرتقي إلى مرحلة إشراقة الروح التي ينقِّب عنها المتصوفة عادةً حتى نيل بلوغها..
إلا أنَّ تصوُّف جداية تصوُّفٌ معتدل نأى به عن شطحات ابتلعت بعضهم فأردتهم في بئر كلمات غير مفهومة أو مفسَّرة تفسيرًا منطقيًا تستوعبه امتداد الكلمات ويرتضيه العقل والمنطق.. حتى أودت بحياتهم وأخرجتهم عن ملَّة الفطرة والصواب..
بل كان بارعًا في الإتيان بمبانٍ لغويَّة وصور شعريَّة تزجُّنا في عالمه المتخيَّل.. وتُسكننا داخله باطمئنان دون خدش مفاهيمنا ومعتقداتنا وإيماننا الراسخ بثنائية الخالق والمخلوق في هذا الكون الفسيح..

أخذنا جداية طوافًا متفكِّرًا في مخلوقات من مخلوقات الله بعدما أنسنها وأقام معها علاقة خاصَّة داخل تلك الدائرة الصوفية..
أغلقها وجعلنا نطوف فيها مسبِّحين بجمال ما استحضر من مخلوقات أبانتْ عن (قلقه) وحيرته، ثمَّ ابتهالاته حين أنطق البحر والليل والصبح ثم الورد حين استحضره بداية الحياة ونهايتها..
لتستجره إلى قلقٍ وجوديٍّ وتوتر أمام فكرة الموت الحتميَّة التي تنهي حيواتنا جميعًا..

كان يهدهد للمتلقي حين راح ينسج شرنقة من طبيعة شرَّع كوَّتها نحو البحر مذ بداية القصيد..
ثم بدأ (بالمناولة) بين عناصر الطبيعة على نحو يشدُّ وتيرة القصيد كلَّما حبونا معه خطوة وراء خطوة.. فكأننا ننتقل من نوتة موسيقية تحملنا من عالم إلى عالم ومع كلِّ نوتة يستوقفنا ليرسم مشهد الفضاء المكانيِّ الذي وقف عنده..

إنَّ الناظر المتمعِّن في لغة هذه القصيد يلمح فورًا العلاقة القائمة بين اللغة وما ذهبنا إليه في دائرية شكل بناء القصيد..
فقد أتى جداية في مطلع قصيده على صورة مستحدثة للموج لا تشبه صورته الأصليَّة في الكون..
ألا وهي الطواف..
(معاندًا) بذلك ظاهرة تتالي الموج وطيِّها بعضها وتتابعها على نحو نراها فيه يطوي لاحقها سابقها.. بل جعلها تطوف طوافًا يشبه حركة حُجَّاج حول الكعبة المشرفة..
ثمَّ أضفى على الموج سمات إنسانية تمنحه صفة المناجاة.. لتأتي مناجاة الماء (فاتحةً) تحقِّق المناسك التي سيعدِّدها الشاعر لاحقًا تعدادًا يشبه (مناولةً) من يدٍ إلى أخرى فيتوافق المعنى مع المبنى ويشد أزره..
ومن البحر إلى الليل.. كاشفًا الأحزان المرافقة حين هبوط الليل وابتلاعه الشاعر.. مكثِّفًا مشهد العذابات المتلاحقة التي امتدت مع الطعنات المتتابعة..
ولو تأمَّلنا جملته الشعرية:
“لليل دروب الحزن على جسدي .. طعنات تستر أوردتي” لوقفنا عند لحظات (إشراقة صوفية) اتسع فيها المعنى فضاقت عليها العبارة.. ليلجأ جداية إلى ارتداء ثوب المجازات والكنايات التي قد تفي بغرض تفسير وتبيان ما يدور بخلده..
إذ كيف تأتي الطعنات ساترة للأوردة!!
أليس الأصل أن الطعنات إذا ما وقعت تفضح الدم النازف من الوريد!!
أنَّى لها أن تكون ساترة هكذا لولا أنَّ عالمًا روحانيًّا ابتلع جداية في بطنه فجعله يكشف عن مستور يراه ويدركه وحده في تلك اللحظة.. حين اجتمع النقيضان معًا اجتماعًا يستحيل تحقُّقه على أرض الواقع..
إلا أنهما اجتمعا في مخيلة الشاعر ثم عبَّر عنهما على هذا النحو..
ولكي تتصل حلقات (القلق) بحلقة (الإشراق الصوفي) يقطع الشاعر عهدًا بالنسيان أمام الريح أثناء الليل في نهاية المطاف..
ولأنَّ قلقه غير مفارق والريح غير مؤتمنة سرعان ما يتراجع عن الوعد.. حين طرح تساؤله :
“هل أنسى أمسية عبرت من غير وداع”؟
وما يزال مشرِّعًا نوافذ (المناولة) بين الليل ثم الصبح ثم الورد ليعود إلى البحر مرَّة أخرى ويُغلق الدائرة التي رسم أولها في بداية القصيدة، مصيِّرًا القصيد كلَّه صومعة متعبِّد يبتهل إلى الله تعالى..
متأمِّلًا خلقه.. مُنطِقًا مفردات طبيعته..
ليصيغ منها مسبحةً سبَّحنا بها معه طوال الطواف داخل القصيدة..

(مناسك الأشياء)

للبحرمناسكهُ
 والموج يطوف على كفّيكِ يغنّي
عجباً للموج يناجيني
لليلِ مناسكه أيضاً
لليلِ دروب الحزن على جسدي
طعناتٌ تستر أوردتي
أقطع للريح عهود الليل
وأنسى
هل أنسى أمسيةً عبرتْ
من غير وداعْ

هل أنسى الناي أيا امرأةً
يعزف قافية الشعرِ
ويغري بي
يتمثّل صبحاً شبقياً
للصبحِ مناسكهُ العذراءْ
يقتات مرايا ذاكرتي
يمسح أحلامي
يجنح بالفكرة عاريةً
من غير ستارْ
فيغارالليل مرتعشاً
والورديغازل عفّتها
للوردِ مناسكهُ أيضاً
للوردِ منازل من رحلوا
 قدّاسٌ للوردِ هناكْ
وأنا وحدي
أتحلُّل من سهري
عتبي
خوفي
نُسكُ الأشياء أشاطرها
أتحلّل من صومي
هل أذكر في العيد مناسكها
وأردّد صوت العاشق في صدري
يا الله
يا الله
للبحر مناسكه
هل يبقى الليل دليلي
والصبح شراعي
والوردة بوصلتي
كي أمضي العمر بلا شطآنْ

ديوان “قلق أنا” يستحقُّ الوقوف عنده مليًّا لسبر أغواره وتفكيكه وإخضاعه لقراءات عدة تستنطق مكنونات الشاعر من خلال قصائده المتنوعة في مواضيعها بين عشق ووطن وقضايا متباينة تستحق القراءة..
شكرا للشاعر عبد الرحيم جداية لهذا الجمال الذي أهدانا إياه ونرجو من الله تعالى له دوام التوفيق والسداد..
____________
اسطنبول
٢٥-٥ من عام الجائحة

عن هشام شمسان

هشام سعيد شمسان أديب وكاتب يمني مهتم بالنقد الثقافي والأدبي ، ويكتب القصة القصيرة والشعر . له عددمن المؤلفات النقدية والسردية والشعرية .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!