قراءة في رواية (( غالية )) للكاتبة نزيهة شلخي موسى بقلم الناقد السّعودي مشعل العبادي

  يصف الكاتب الرّوائي “بول أوستر ” حاله مع الكتابـة ، حيث يقول : “حين أكتب يتحوّل كياني إلى جرح مفتوح فأتلقّى كل ما يحدث في الشوارع ، في السماء ، حولي ، وأضعه في الكتاب الذي أعمل عليه ”  .
إنّ روح التجديد المشتعلة في الكاتبة ” نزيهة شلخي موسى”  جعلتها تثب بثقة داخل الإطار الرّوائي متّبعة تقنية الرسائل في أوَّل تجربة روائية مكتملة الأركان . تخوض “نزيهة شلخي موسى ” في نصّها ” غالية ” تجربتها الأولى في السّرد الرّوائي بعد أن عهدناها في مضمار الشعر، وعطاءاتها السابقة ” سطور خطتها الذاكرة ”  و ” تباريح الصمت ” و مؤخراً مجموعة  “ناصع كقلب ” الصادرة عن دار خيال للنشر. رواية ” غالية ”  هي قصّة حافلة بعوالم نسائية متضاربة تحاكي جمال و مظلومية هذا الكائن الإنسيّ الرّائع، و الذي أجده أمراً مدهشا ومثيراً للإعجاب أن تبدأ  “نزيهة شلخي موسى ”  حياتها الرّوائيّة بمنجز كبير، ناضج، ضخم، فخم، كثيف، و:مختلف شكلاً و مضموناً سواء فى مغزاه ومستوياته أو فى بنائه الماهر . وتعمد الرّواية ــ وهذا سرّ نضجها السّردي ــ إلى تجسيد موضوعها الأساسي، وهو الانكسار و:هدر الأحلام الإنسانية البسيطة والمشروعة معـاً، من خلال بنيتها الفنيّة قبل موضوعها نفسه. بل أيضاً أجد قصّة ” غالية ” هي “البيان ” الذي تجسّدت من خلاله معظم ملامح عالم “نزيهة ” سواء من حيث تعدّد زوايا الرؤية (وكأننا ننظر إلى الحياة من خلال مكعب شفّاف) أو من خلال زاوية تجسيم الأفكار والأشخاص، و الاستفادة من طرق الحكي بكافة شعابها، أو من حيث المضمون (الرّواية كتفريغ للذاكرة الإنسانية). الرّواية كونها سؤال موجه للحياة، والحياة كسؤال وليست كإجابة، وهذا الكائن -الإنسان- المثير للتساؤلات، وهذا المجتمع الذي يصنع منه مستودعاً للتناقضات، تجعله معلقاً بين السماء والأرض. ثم نسبيّة المعرفة والحيرة في الاختيار، ومن النقطة نفسها: الاستقلال عن العائلة، والأمر ليس باليسير كما تتخيل ” غالية ” بل له عواقب ؛ فما يعقبه من نتائج لا يمكن تجاوزها إلا عبر إتمام مواجهة صعبة مع النفس، ثم وقوعها أمام خيارين .. إما  ” النسيان ” ، نسيان الأمر برمته، أو الوصول إلى نقطة ” الإدراك ” .. الإدراك بأنّ في العالم أشياء أكثر قسوة وانحطاطاً، وأنّ النضج يبدأ من التصالح مع ما نطلق عليه أزمة العائلة، أو باعتبارها جزءاً حيوياً صاغ ما نحن عليه، بما فيه من خير وشرّ، فمسألة العائلة أكثر تعقيداً من تصنيفات ثنائية، حيث لا يمكن الفصل – في أغلب الحالات- بين المحبة والقسوة، بين الرقّة وأفخاخ الاستحواذ على روح المرء، بين العطف والانحطاط، وهو ما تتميّز الرواية في التعامل معه وتفكيكه، وتتمثل مفتاح رواية ” غالية ” كلّها في هذه العبارة الهامة على لسان الرّاوية: (القوّة كلّ القوّة تنبع منك ، من داخلك ، فلا داعي للبحث عنها بعيدا ، مدّ يدك إليها فهي أمامك و بجانبك.) و تساهم عملية تعدّد الأصوات، وتغيّر منظور السّرد من صوت إلى آخر، فى إرهاف وعي القارئ بما يدور فيها من أحداث، وبما ينطوي عليه المجتمع والواقع العربي من تناقضات . تنساب أحداث الرواية بسلاسة، وإن عمدت إلى الانتقال بيسر وليونة بين الأصوات السّرديّة بطريقة تضفي على السّرد عمقاً وخصوبة، توشك أن تكون هي الموضوع ذاته، وقد مكّنتها عمليّة الانتقال تلك من أن تتيح للشخصيات الأخرى أن تعبّر عن رؤاها وتحكي حكاياتها، بالحدوتة أو بالإحالة إليها، وأجد أنّ هذه التقنية تعطي تلاحماً لأجزاء النص، ومن خلالها يتم استيعاب الدلالات في إعادة ربط أجزاء النصّ في علاقات جديدة يبنيها المتلقي، والمساهمة في تعزيز جسور العلاقة بين المتلقي والنص . إنّ الكاتبة انطلقت من موضوع يبدو في ظاهره بسيطا، بل وأكثر حميمية بالنسبة للمرأة، ويفتح طريقاً جديدة للتعرف على الذات الأنثوية دون أن تنفصم هذه الذات عن إنسانيتها ودون أن يلغي فعل الكتابة أنوثة الكاتبة، بل يحقق وجودها بشكل متميز وفعال.
إن “غالية” نموذج حيّ على وجود تمایز تحققه كتابة النساء – في الموضوع وفي اللغة – وكذلك الكشف عن أهميّة وجود كتابة أخرى تكسب الأدب تنوعاً واختلافاً وثراءً. إنّ وجود مثل ذلك الإبداع -الإنساني- في حياتنا، والإبداع بكافة أشكاله.. هو طوق النجاة، في عالم هشّ تحوّل في لحظة ما بسبب الجائحة وما خلّفته على العالم إلى بوتقة كبيرة ثنائية بين الألم والملل، نحتاج إلى الكتابات الإبداعية لنحافظ على الذائقة ، وعلى احتفاظ الإنسان ذاته بتوازنه. رواية ” غالية ” لن يتجاوزها الوجود ولن يبتلعها الزمن وخلودها في أزمنة أخرى احتمال قائم بما تمنحه في ذهن المتلقّي من خاصية مميزة تبعث ضوء مفعولها في وجدانه . ” نزيهة شلخي موسى ” و,فِي سبيل صنع سلسلة متوالية من الإبداعات لا ترضى بالبقاء في منطقة إبهارها الأولى وتسعى بشكل ذكي ومدروس لتأسيس مرحلة تالية في التأليف الرّوائي أوضح دلالة تعني الارتقاء إلى الأعلى ، إلى حيث ثراء إشراقات الهتون .

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!