قراءة في قصيدة للشاعر أحمد سعيد /بقلم أحمد وليد/ المغرب

لا شئ يشبهك..
أنت غير كل النساء ..
رغم أنك ..
مخلوقة من طين وماء ..
لكنك..نورانية الروح..
كقمر السماء..
رقيقة كالفراشات ..
كعطر المساء ..
لا شئ يشبهك..
إلا أنت ..
يا من ملكت القلب..
وفى أعماق الروح..
سكنت..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أحمد سعيد
كتب الشاعر قصيدته هذه ضمن سلسلة قصائد أدرجها تحت مسمى : ”همسات ليل ” و لعلنا بهذا المسمى أو العنونة للقصائد نتخيل الشاعر جالسا بركن صغير من أركان بيته متأملا مفكرا تاركا العنان لخياله يأخده حيث شاء ، أو ربما بشرفة منزله ينظر للقمر الذي يذكره بحبيبته فيأتي بهذه الكلمات مستحضرا حبيبته و معبرا عما بداخله من عاطفة و مشاعر .
تتكىء القصيدة في بنائها على الصورة الشعرية هذه الأخيرة التي تعد الركيزة الأساسية أو اللبنة الأولى في بنية النص الشعري ، بدءا ببنيته الصوتية و مرورًا بالبنى الأخرى الصرفية و المعجمية و التركيبية لهذا يعتبرها النقاد مقياسًا تقاس به موهبة الشاعر للحكم عليه و مقارنته بباقي الشعراء فنجاح أي شاعر أو فشله رهين قدراته التصويرية التي تمكنه من نقل تجربته الشعرية و أحاسيسه إلى المتلقي بواسطة ملكة الخيال . و شاعرنا يتوفر على خيال واسع و خصب يمكنه من تشكيل صوره كيف يشاء ، فنجده هاهنا يخلع حبيبته من آداميتها يصورها مخلوقا آخر يختلف عن البشر و إن كانت من ماء و طين . يخرجها من عالم الجسد المادي الضيق ليدخلها عالمه الخاص المطلق ، عالم الأرواح فيشكلها روحا بلا جسد ، فحبيبته لا تشبه أحدا و ليست مثل باقي النساء فهي نورانية الروح مشرقة و مضيئة ينعكس نورها على وجدان الشاعر فتخرج الكلمات متلألئة براقة تشرق بين أسطر القصيدة . و عند العرب عامة فإن الصورة الشعرية ترتبط بالألوان البلاغية من تشبيه و استعارة و كناية و مجاز ، يقول ابن طباطبا العلوي و هو يتحدث عن أحسن التشبيهات : ” فأحسن التشبيهات إذا ما عكس لم ينتقض ، بل يكون كل مشبَّهٍ بصاحبه مثل صاحبه ، و يكون صاحبه مثلَه مشبَّهًا به صورة و معنى ، وربما أشبه الشيءُ الشيءَ صورة و خالفه معنًى ، و ربما أشبهه معنًى و خالفه صورة و ربما قاربه و داناه أو شامّه و أشبهه مجازًا لا حقيقة ” (1). هكذا تحتاج الصورة الشعرية إلى مكونات داخلية ( اللغة و العاطفة و الخيال ) و أخر بلاغية ( التشبيه و الإستعارة ) بواسطتها يحاول الشاعر التعبير عن عواطفه و أحاسيسه . إن الصورة الشعرية التي تستوقفنا في هذه القصيدة يمكن اعتبارها وسيلة لإستحضار مجموعة أشكال ذات ألوان نورانية مشعة و مضيئة كلها تتركب في نسق جميل و رائع ، إنها صور تمتع الحواس وهي تستحضرها باتساع الصور الحسية و تداخلها باللمس و الرائحة و اللون … فحبيبة الشاعر نورانية تشع كالقمر الذي يضيء السماء . هكذا تتشكل الصورة الشعرية عند الشاعر من خلال الحركة واللون لتمنح للقصيدة حيوية تنم عن مقدرته في خلق العديد من الصور ضمن تجربته الشعرية . و بما أن التعبير الشعري تعبير يتميز بأنه تعبير تصويري لا تقريري ، و أن التصوير في حاجة إلى التشبيهات والاستعارات و الصور ، و يعتبر عموداً يقوم عليه ركن أساس من أركان الشعر، وهو ركن التعبير الذي يكون ديباجته (2) فإن شاعرنا استعار من القمر ضوءه و نوره و سحره و جماله و أضفاه على حبيبته ليظهر جانبا مضيئا من روحها المشرقة التي تشع نورا إذا ما إلتحمت بسحر الجسد الفاتن ، فدونما حاجة لوصف جسد الحبيبة و تفاصيله استطاع الشاعر و بكل سهولة إظهار جمال حبيبته الساحر فمن يشبه القمر في الضياء لا يمكن أن يكون إلا جميلا ، و الشاعر أمام جمال حبيبته لم يجد أجمل من القمر ليصفها به . هكذا يتمكن الشاعر من تقريب الصورة للمتلقي ، فالشاعر يدرك الصورة بحواسه داخل عالمه الواقعي المحسوس فيخلق للمتلقي عالما خياليا أو متخيّلا يستطيع بواسطته هذا الأخير إدراك الصورة لا حقيقة بل خيالا بواسطة مخزون ذاكرته معتمدا على الحواس .
و الحديث عن الصورة الشعرية يستلزم الحديث عن الحواس من سمع و بصر و علاقتهما بالخيال فارتباط الخيال بالحواس أمر طبيعي لأنه سمة بارزة من سمات الأسلوب الأدبي فهو يصور العاطفة و ينقلها إلى السامع إذ يوجه الشاعر ليستمد معانيه من سمات تجربته الحسية بحيث ترتسم صور المحسوسات في خياله و ترتب حسب ثقافته و ما جُمع بذاكرته من مخزون قبلي و حسب قوة ملاحظته و تجربته المستمدة من عالم الطبيعة .
فنجد شاعرنا هنا يصور حبيبته و كأن لا شيء يشبهها أي أنها تفوق الكل ــ و الكل هنا يخص كل النساء ــ فهي تفوقهن جمالا و حضورا و بهاء و تألقا و رونقا و ربما ذكاء و تعقلا أيضا و إن كانت إنسانة مثلها مثل باقي البشر فقد أرجع الشاعر تركيبها إلى أصلها الأول ” ماء و طين ” إلا أنها ليست مثل البشر بل تفوقهم بكل شيء و هذا تصوير بليغ جدا و إن بدا سهلا ميسرا ، و قد أتى بكثير من التشبيهات في صياغة هذه القصيدة ، الشيء الذي يؤكد وعي الشاعر و يحدد قدرته في المزج بين الظواهر المتباعدة واقعًا لتكون متقاربة فنًّا بفعل العلاقات التي يقيمها بين الدوال اللغوية ، فالتشبيه ” علاقة مقارنة تجمع بين طرفين لاتحادهما ، أو اشتراكهما في صفة أو حالة أو مجموعة من الصفات و الأحوال ” (3) و ربما كانت المشابهة بين الطرفين حسية أو عقلية، إلا أنها مع ذلك تظل “مجرد علاقة مقارنة ، و ليست علاقة اتحاد أو تفاعل و صيرورة يتحول معها الطرف الأول كلية إلى الطرف الثاني فيكون هو هو، لأن الشيء لا يشبه بنفسه “(4) لأن التشبيه يفيد الغيرية و لا يفيد المثلية ، و مما يسهم في هذا الافتراق /الغيرية بين الطرفين وجود أداة التشبيه التي تبدو و كأنها كالحاجز المنطقي الذي يفصل بين الطرفين و المانع من تمام المشابهة .
و إذا كانت أداة التشبيه معززة لإنتفاء تمام المشابهة أو الاتحاد بين الطرفين ، فإن ثمة صورة تشبيهية تخلو من الأداة و وجه الشبه ، و فيها يقترب الطرفان من تمام المشابهة و يصيران كأنهما شيء واحد ، و تلك صورة التشبيه البليغ الذي فضله قدامة بن جعفر على غيره من صور التشبيهات المفردة ، فقال فيها: ” فأحسن التشبيه هو ما وقع بين الشيئين اشتراكهما في الصفات أكثر من انفرادهما فيها، حتى يدني بهما إلى حال الاتحاد ” (5)، و اختفاء الأداة من هذه الصورة التشبيهية يستدعي القسمة المنطقية بين أنواع الصور التشبيهية : تشبيه بالأداة و تشبيه بغيرها ، مع العناية بالبنية اللغوية للصورة التشبيهية . هذه الأداة هي الأصل في باب التشبيه ، و الأشهر من بين أدواته لبساطتها ، و اختصاصها بالدخول على المشبه به لأن ” المشبه مخبر عنه بلحوق غيره محكوم عليه ، فلو دخلت الكاف عليه لامتنع الإخبار عنه ” (6) كما أنها تختص بالدخول على الاسم الجامد المفرد كما تختص بالدخول على الأفعال و الأحداث أو الهيئات ، فالصورة التشبيهية ” ينبغي ألا تقتصر على نقل المحسوسات من الواقع إليها ، و لا تقف على مجرد التماثل الحسي بين الأشياء ، بل لابد فيها من صبغ المحسوسات بألوان الشعور عند الشاعر، و أن ينبع المُحَس من داخل النفس، ممتزجًا بخواطره و مشاعره ” (7). و من استخدام كاف التشبيهية قول الشاعر:
كقمر في السماء
رقيقة كالفراشات
كعطر المساء
و هذا التشبيه يستدعي التشابه في هيئة المشبه و المشبه به مما يبين قدرة الشاعر في إدراك العلاقات بين المدركات التي يقع عليها بصره ، فيحاول في وصفه تقريب الصورة للمتلقي الذي يجد أثر الطبيعة في الصورة واضحًا . فالشاعر أراد تشبيه حبيبته بالقمر فوجهها جميل و مضيء و ربما مستدير استدارة القمر و أيضا شبهها بالفراش في الخفة و الرقة و بعطر المساء فالمساء دائما تتفتح أزهاره برائحة عطرة تملأ الكون جمالا و بهاء و هكذا حبيبته بهية عطرة كالمساء ، كل هذا يؤكد جمال هذه الأوصاف الحسية و المعنوية لحبيبته ما يجعلها رقيقة جميلة و نورانية الروح أي عذبة و طيبة زيادة على بهاءها و حسن طيبها و هذا ما يعجب الشاعر فيها فيفتتن بها فلا شيء يشبهها هي إلا هي نفسها ، لا أحد مثلها هي التي ملكت القلب و سكنته. إنَّ هذا العرض لمستويات التشبيه عند الشاعريقوم على عقد مقارنة و مشابهة بين الأشياء ، فقد شابه بين الحسي و الحسي ، و العقلي و الحسي غائصا في معانيها العميقة خالقا لصورها ، مبدعاً لها الشيء الذي أكسب القصيدة مظهراً جمالياً رائقاً . فاللغة الشعرية اعتمدت على الصورة أساساً لها ، فهي وسيلة الشاعر التواصلية ومسعفته في التعبير عما يداخل وجدانه بل مكنته بطريقة سحرية في الإيحاء الشيء الذي ساعد المتلقي على إلتقاط الإشارات و تحويلها إلى دلالات قد تضيق أو تتسع حسب قدراته التأويلية .
و القصيدة التي بين أيدينا تنقل بوضوح عاطفة الشاعر التي تبدو وجدانيّة ذاتية يمزجُ فيها بين الحب و الجمال وَ يُظهر فيها مشاعره اتجاه حبيبته و إعجابه بها حد العشق . و برغم كون معاني و صور هذه القصيدة تظل مستعملة و متكرِّرة إلا أن الشاعر استطاع أن ينقل لنا صدق مشاعره و يصف لنا حالة شعورية خاصة لموقف عاطفي و وجداني عاشه و مرّ به .
القصيدة صغيرة في مساحتها لكنَّها عريضة في معانيها توضح مقدرة الشاعر الإبداعية و طاقاته الشعريَّة و الفنيَّة باستخدام كلمات جميلة و تعبيرات رقيقة و بسيطة كتبت بعفوية و صدق .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أحمد وليد
هوامش
1- ابن طباطبا: عيار الشعر ـ ص 49.
2- محمد مندور، النقد والنقاد المعاصرون، مكتبة مصر، ص 66.
3- د/ جابر عصفور: الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي ص 188 – دار المعارف 198.م.
4- السابق – ص 189.
5- قدامة بن جعفر: نقد الشعر – سابق – ص 1.9.
6- السبكي: عروس الأفراح في شرح التلخيص تحقيق د/ خليل إبراهيم 2/19. ط1/2..1م دار الكتب العلمية
7- د/ علي علي صبح: البناء الفني للصورة الأدبية عند ابن الرومي ص 167- 168 ط1/1976م مطبعة الأمانة

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!