قراءة في “قهقهات باكية” للروائي صبحي فحماوي د. سلطان الخضور

لصحيفة آفاق حرة:

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

 

    

قراءة في “قهقهات باكية” للروائي صبحي فحماوي

د. سلطان الخضور

        في النسخة الثالثة, الصادرة عام 2016  والتي حملت عنوان قهقهات باكية, صنفها الكاتب في جنس الأقصوصات, كان الروائي العروبي المهندس صبحي فحماوي بارعاً في الضغط بإصبعه على ألف جرح عربي, هي تعداد أقاصيصه, فقد تنقل ما بين جرح وجرح محاولاً الإسهام ولو بأضعف الأيمان في الإشارة لمواطن النزف, ساعياً للتقليل من عملية نزفها ولفها بشاش وهو يعلم أن هذا الشاش ما هو إلا قطعة من القماش قد لا تكون هي العلاج الشافي للجراح, فهي قابلة للاختراق وسيبقى الدم نازفاً, لكنها محاولة مؤقتة تحمل مؤشراً قوياً لأصحاب القرار والمهتمين بالشأن العربي العام, فالفحماوي لم يبكِ من شد الفرح, بل ضحك وبقوة حد القهقهة من شدة الألم.

لم يكن ما أشرنا إليه اعتباطا, بل نتيجة لقراءتنا للطبعة الثالثة  التي أهدانا إياها الروائي فحماوي مشكوراً, ولسبب آخر وهو الأهم أن النزف غائر وعميق ومتشعب فالهم العربي ينتشر أفقياً وعمودياً ويتوزع على مساحاته, ويتوزع توزع الماء على سطحها, فلا يكاد يخلو مجتمع من المجتمعات العربية من هذا الهم ومن هذه الجراح النازفة.

    وقد لفت نظري عنوان الكتاب بمفردتيه “قهقهات وباكية”, فالقهقة في اللغة هي الضحك بصوت مسموع بشيء من المبالغة, والضحك اشتد أو نقص, هو تعبير عن السعادة وأحيانا الاستهجان, فكيف يتفق الضحك مع البكاء في هذه الأقاصيص؟

    في هذا المقام نقول. أن من المشاهد ما يدعوا أحيانا للضحك حتى ولو كان الأمر يدعو إلى البكاء على قاعدة ” المضحك المبكي” وإذا اردنا أن نعطي مثالاً نقول مثلاً أن مشهد النفاق مر ومؤلم, لكنك أحياناً حين تتابع مشهداً مبالغ فيه لا تلبث إلا أن تبالغ في الضحك تعبيراً عن التعجب مما رأيت أو سمعت, فمشهد النفاق مشهد في الأصل يدعو إلى البكاء, لكن الهم والحزن والألم تم التعبير عنه بالضحك حد القهقهة, وكأني بالكاتب يؤيد أن يكون في طرح نسبي طردي مفاده أنه كلما زادت شدة الألم زادت شدة الضحك لتصل حد القهقهة من هول ما كان.

       أما الصورة التي اختارها القاص لتغلف كتابه, فهي رسم تعبيري للشمس, لكن الشمس وإن بدت مبتسمة إلا أن ابتسامتها صفراء موحية بعدم الرضا, وإن الكاتب أردها أن تتضامن مع العنوان, لتكوّنا معاً حالة من الانسجام الإيحائي, وليس هذا فحسب بل بدت الشمس بعينين, إحداهما مغمضة وقد تكون مطفأة, أما العين الأخرى وإن بدت مفتوحة إلا أن فتحتها غير مكتملة, أما أشعة الشمس فقد أراد لها الكاتب أن تكون منكسرة لا تسير كعادتها في خطوط مستقيمة , بل منها ما توقف في مرحلة ما ولم يكمل المشوار ليسقط في مكانه على هيئة كتل, وكأن الشمس بمعانيها كالفجر والحرية  واطلالتها الباسمة.

     وقد جاء العنوان مكملاً لدلالات الصورة, ليتحدا معاً ويعلنا تضامنهما مع مرامي الكتاب ليخرج الكاتب بكتاب مشهدي نقدي يحمل في طياته أحزانا توزعت على صفحاته وأعلنت قدرتها على حمل مهمة ليست باليسيرة وهي مهمة النقد الذي تنتهي قفلته بانعطاف دلالي مثير يجلي الصورة أمام المتلقي ويزيل ضبابية الرؤى.

     أما الإهداء فقد كان ” إلى المارين بسرعة في عصر السرعة” فكأن النظرية الفيزيائية في اكتساب التسارع المنتظم تحققت في الإهداء ليعكس بدورة جملة نقدية مفادها أن الناس لم يكتفوا بعصر السرعة بل انزاحوا للتسارع فهم أيضا مسرعون زادهم عصر السرعة سرعة على سرعتهم, وجعل منهم صرعة العصر التي لا تكترث بالأشياء بل تمر عليها مروراً سطحياً بعيداً عن العمق والتعمق.

    وقد ساهم الأستاذ الدكتور عبدالرحيم مراشده عميد البحث العلمي في جامعة عجلون الوطنية في تقديمه للكتاب في توضيح الصور التي أرادها الكاتب, فقد ذكر في الفقرة الثانية أن الفحماوي يتقن السرد ولا يحتفي بشعرية النص, حتى لا يشتت وعي القارئ ومرجعياته, ليبقى متمركزاً حول النص وشخوصه واستراتيجياته, وأضاف في الفقرة التي تليها, أن الأقصوصة النثرية تسرد حدثاً جديداً غير مألوف وهو ما يتناسب مع تقديم الحدث على الشخصية لا سيما عند الوصول للخاتمة التي تتضمن مفارقة مدهشة حافزة على اللذة والمتعة, وصولاً للتأمل والتفكير فيما وراء النص تحقيقاً للمسار الإيحائي المنشود.

   وقد أشاد فيما ورد بهذا الكتاب مهتمون كثر من مختلف المستويات الأكاديمية ومن مختلف الاهتمامات,  توزعوا على جغرافيا الوطن العربي, فمنهم العراقي ومنهم السوري ومنهم الأردني والجزائري والفلسطيني والمغربي والمصري ما يعطي انطباعاً بنجاح القاص في المهمة التي جند نفسه لتحقيقها من خلال صفحات هذا الكتاب.

    وتحقيقاً للحيادية, واستبعادا للانتقائية, فقد اخترنا التعرض للأقصوصات الخمسة    الأول منها  لتعطينا نماذج مشهدية نقدية لاذعة, فها هو في أقصوصته الأولى من الكتاب بعنوان” خريف” ينتقد بأسلوبه الساخر حتى اشجار الغابة في تعريها لتتلقح من حبات المطر, فهو لا يرى ضرورة للانكشاف ووضع كل الأوراق على الطاولة, بل يجب أن يبق الجسد مستوراً, وإن انكشف فلا ينكشف كله, بل عليه أن يبقي على شيء من أوراقه للقادمات من الأيام, وكأني به يحكي عن أمة بات صدرها عارٍ, ولم تعد قادرة على تغطية عورتها أمام هذا العالم الذي ينهش جسدها بلا استئذان.

         ولم يكتفي الفحماوي في هذه الأقصوصة القصيرة بالإشارة لانكشافها, بل تعدى الأمر ذلك, ليشير إلى أنها أمة لا تستجيب للتمنيات أو الأمنيات’ فراح على لسان رفيقه يشير أن أمنيته لم تتحقق في أن تكون أوراقها المتساقطة دنانير ذهبية, فكان تساقط أوراقها تعر لتغري قطرات المطر علها تغسل جسدها العاري, وفي ذلك إشارة أن الأمة غنية بما وهبها الله وهذا الوهب تعكسه جملة ” تتساقط من السماء” ومن الممكن أن تدر على ساكنيها ذهباً, إلا أنها ضنت على أبنائها, رغم أن الله وهبها الكثير.

النّص

    ” استغربت استغراقه في تأمل أوراق خريف أشجار الغابة, فقال لي: أتخيل أوراق الخريف, دنانير ذهبية تتساقط من السماء, وأتفرج على أغصان الشجر كيف تتعرى, لإغراء قطرات مطر الشتاء بالهطول, لتغسل جسدها العاري.”

أما الأقصوصة الثانية التي عنونها بــ” جنوبي ” وهو يقصد جمع مفردة ” جَنْب” وهو الناحية من الجسم, فقد أبرز فيها وجعه العربي المؤلم, في إشارة إلي الوجع اليمني والسوري والعراقي والليبي والمصري, فكل ما ذكر في أقصوصته يضيف هماً على هم, ويبقي الجرح بلا اندمال وبلا تضميد, لكن جعل جنب الوجع الفلسطيني في النهاية ليسحب ذهن القارئ إليها, وما تكرار فلسطين ثلاثة مرات وختامها بكلمة فلسطينيين إلا من باب التوكيد, وأحسن قفلته حين جعل من هذا المشهد حلماً من باب السخرية من الواقع, متمنياً أن لا يتكرر هذا المشهد مع المستقبِل.

يقول في أقصوصته الثانية

“قالوا لي:( وين الجنب اللي بوجعك!) فقلت لهم:” جنبي اليمن, وجنبي سوريا, وجنبي العراق, وجنبي ليبيا, وجنبي مصر, وجنبي فلسطين ..فلسطين ..فلسطين, فلسطينيين..” وبقيت أرددها, وهم يضربون, ويضربون, حتى كسروني تكسيراً..

كان حلماً لا أراكه الله!

      أما الأقصوصة الثالثة, فهو مشهد تختلط به السخرية مع الاستنكار, وهو ببساطة يستنكر ويسخر من أمرين, الأول: وجود السّفن الحربيّة والقواعد النووية والصاروخيّة الاجنبية, فتأمل بعقل شخص آخر, مشهداّ لا تستريح له النفس, وهو رؤية الأجنبي المدجج بمختلف أنواع الأسلحة يصول ويجول في أرض العرب, برها وبحرها وجوها, أما الأمر الثاني فهو السخرية واستنكار جاهلية القرن العشرين, مبدياً قناعاته أن ما نسميها جاهلية, وهي فترة ما قبل الاسلام كانت أكثر حضارة وكان أهلوها أكثر تحضراً, مستشهداً بشعر عمرو بن كلثوم الذين يدعون – على حد وصفه – أنه جاهلي, حيث قال: ” ملأنا البرَّ حتى ضاق عنا, وظهر البحر نملأه سفينا” خاتما بقفلة متسائلة” متى نتحضّر, فنصل إلى عصر الجاهليّة؟ وما كان عنوان النص وهو” جاهلية حضاريّة” إلا دليلاً قادنا إلى هذا الاتجاه.

النص الثالث:           

” جلس يتأمل السفن الحربيّة والقواعد النووية والصاروخية الأجنبيّة التي يضيق بها برّنا العربي, وغيرها التي تملأ بحرنا, فاذكر قول عمرو بن كلثوم” ملأنا البرَّ حتى ضاق عنا, وظهر البحر نملأه سفينا”

فقال لنفسه: متى نتحضر, فنصل إلى عصر الجاهليّة؟

    وقد جاءت الأقصوصة الرابعة لتصب في ذات السخرية والاستهجان والاستنكار, متسائلاً هذه المرة على لسان طفل قادم من بلاد الغرب, وعقد مقارنة جغرافيّة تتعالق مع الزراعة, ليجد الطفل نفسه في مشهدٍ غير الذي كان, مشهد يوحي بالأرض الجرداء القرعاء التي شاهدها الطفل بعد خروجه من المطار, لتكون السخرية على لسانه في ظن منه أن هذه الأرض المقفرة كانت مزروعة بالأشجار, لكنهم قطّعوها لسبب أو لآخر, فيتساءل عن سبب هذا التقطيع, ولتكون المفارقة من أبيه حين أخبره أن هذه الأرض لم تشهد فعل الزراعة أصلاً, لتعاني من فعل التقطيع. وقد كان الفحماوي محدداً, لما تحدث عن أشجار بعينيها وهي أشجار المطار.

    يقول الفحماوي في أقصوصته بعنوان” أشجار المطار”

   ” عندما خرجا من المطار بالسيارة, سأله طفله القادم معه من بلاد الغرب: لماذا قطّعوا كل الأشجار المحيطة بالمطار يا أبي, فظهرت الأرض كلها صحراء قاحلة؟

فقال الأب:” إنهم لم يزرعوها من الأساس, ليقطعوها يا ولدي.”

 

أما الأقصوصة الخامسة والأخيرة التي نستشهد بها في هذه القراءة, ففيها عودة للوجع الفلسطيني, الفلسطيني المعذب, الفلسطيني اللاجئ الذي يبحث بعد عشرين سنة من الإقامة المؤقتة, عن إقامة وطنيّة, تشعره بشيء من الهدوء والاستقرار, فيطلب هذا الفلسطيني المثقل بوجع اللجوء إقامة وطنية, ليكون الرد صعقاً. فبدلاً من الأخذ بيده والاستجابة لمطلبه, فوجئ بإقامة جبرية كبلت يداه ومنعته من السفر, وهي ما عرفت بالإقامة الجبري, ليس لذنب اقترفه, بل جزاء لطلبه إقامة وطنيّة, ما زاد من معاناته وأضاف هماً على هم, وقهراً على قهر.

 نص الأقصوصة الخامسة:

” بعد عشرين سنة إقامة مؤقتة, طلب رجل فلسطيني الحصول على إقامة وطنيّة, فأعطوه إقامة جبريّة, تمنعه من الحركة والسفر.”

      من خلال ما استعرضناه, يتضح النقد اللاذع لحال هذا الوطن العربي المتأزم, الذي يعاني قاطنيه, مما لا يعد ولا يحصى من المشاكل, وليضعنا وكأننا في عرض مسرحي, يعكس صورة هذا الواقع. 

 

عن محمد فتحي المقداد

كاتب وروائي. فاز بجائزة (محمد إقبال حرب) للرواية العربية لعام 2021م. الروايات المطبوعة هي تشكيل لرباعية الثورة السورية. -(دوامة الأوغاد/الطريق إلى الزعتري/فوق الأرض/خلف الباب). ورواية (خيمة في قصر بعبدا)، المخطوطات: رواية (بين بوابتين) ورواية (تراجانا) ورواية (دع الأزهار تتفتح). رواية (بنسيون الشارع الخلفي)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!