قراءة لنص “صارخة” للمغربية سعيدة جادور / بقلم:الناقد د. سلطان الخضور

 

كان العنوان الذي اختارته المغربيّة “سعيدة جادور” متفقاً مع الجو الرومانسي العام للنص, حين عبّرت عن حبّها للبحر وجمال الشاطئ والطبيعة, تحت عنوان “صارخة” فقد استطاعت استحضار صورة النوارس على شاطئ البحر, وهو المكان المحبّب عند الشعراء والأدباء, حيث يستمدون منه الالهام الذي يقودهم إلى الابداع. وهو المكان الذي اعتاد الناس رؤية النوارس فيه, مستمتعين بجماله وجمالها, يستمدون منهما الدفء والحنين’ ويستمتعون بالمد والجزر, مدركين ـم الحياة في مدها وجزرها هي كالبحر.

وقد نجحت سعيدة أيضاً في جمع مشهدين اثنين جميلين في نفس الوقت, فلا أحد يستطيع تجاهل جمال البحر والنوارس على شواطئه, وما زاد هذا الجمال جمالاً هو سقوط المطر, فلك أن تتخيل جو ربيعي دافئ ومطر يهطل, والنواس تجول على شواطئ البحر, مما جعل هذا الجو الرومانسي المشحون بالمطر, يزيد من منسوب عشق البحر عند الكاتبة. وأنا شخصياً أعزي هذه اللغة وهذا العشق لحالة التآلف التي تتولد نتيجة لقرب الناس الذين حوله من جسد البحر, وكذلك إلى الجغرافيا حيث طول الشواطئ على حد المتوسط مع المغرب الشقيق.

“صارخةٌ”

في عزلةٍ مني ألملم

صارخةٌ مثلُ نورسٍ

أعشقُ البحرَ أكثرْ

حين يسقطُ المطرُ

لكن هذا العشق وهذا الجو الرومانسي الرقيق, وهذه المشاهد الجميلة التي تراها من نافذة بيتها, لم تستطع تهدئة نفس الشاعرة, وبقيت تشعر بجو من الغربة تجاه المكان, ربما لأسباب عندها نجهلها نحن, فيبدو كما أشارت أن هناك طرفاً خفياً, قد سبب هذه الرّدّة في المودّة التي أدت إلى الشّعور بالاغتراب, لتعطينا صورة النّفس الحائرة المتقلّبة المتردّدة غير الواثقة, التي أجبرتها على الرّحيل إلى أمكنة أخرى, لعلها تجد فيها جواً من الهدوء والاستقرار, ولم يكن الأمر سهلاً بل كلّفها الكثير من الترحال من مكان لآخر, لأن الطريق لم تكن سالكة. ما جعلها في مشوارها تتعثر وتتابع رحلة التنقّل, وكل ذلك جاء نتيجة لعدم الانسجام التام بينها وبين المكان, فقد كانت على قربها نشعر بالغربة.

أفتح نافذتي على اغترابٍ

صارخةٌ

منتظر الطرف الخفي

وأشُدُّ الرِّحالْ

أحبو أنمو أتعثّرْ

أعبُرُ خطوطَ سكةِ الوصلِ

من رصيفٍ إلى آخَرْ

ويبدو أن الأمر جلل وأن الهدف بعيد المنال, ما حدا بالشاعرة للتوقف عن هذا النمط من التفكير, ومراجعة أوراقها من جديد, لأنها لم تستطع أن تلبي حاجاتها التي لسبب أو لآخر, لم تكشف عنها بعد فبقيت ظمئ, وهذه النتيجة دفعتها لتفكر بنمطية جديدة, تخرجها من هذا الجو الذي تعيش, متأمّلة الوصول إلى حالة من الطمأنينة والهدوء, وقد بانت معالم واحد من الأسباب التي سبّبت لها هذا الاضطراب النفسي السلوكي في الفقرة التالية, وهو أن ما كانت تحسبه حقيقة, انكشف أمره وظهرت كل تلك الذكريات التي اختزنتها حكايا نفاق, هنا يكمن عنصر الدهشة التي أوقعت الريبة والشك والخوف, إذ المفاجأة في ظهور صورة نمطية على العكس تماماّ مما اختزنته الذاكرة وكان من الذكريات.

أراجعُ أوراقي

لا ظمأَ يرويني

ولا أحزاني تتركُني

لأبدأَ العزفَ خارجَ السياقْ

امنحيني يا نفسي هدوءَ القلقْ

كلُّ الذكرياتِ السجينةِ في قلبي

غدَتْ حكايا نفاقْ

وبعدها تنتقل الشاعرة للبوح عن نفسيتها المثقلة بالحزن, الذي جاء نتيجة للفراغ, وقد تعني بالفراغ التعطل عن العمل الذي تعاني منه مجتمعاتنا العربية بشكل عام, والذي فاقمته ازمة كورونا التي أصبحت سيفاً مسلطاً على رقاب الشيوخ والشباب, والنساء والأطفال, وما جلبته من مشاكل مادية واقتصادية, وما سببته من قطيعة في العلاقات, وتغير في الأنماط السلوكية خففت من الترابط بين أفراد المجتمع.

وها هي تصرخ من جديد, صرخة جعلت من ذاتها تتحد مع ذات القصيدة, لتأخذ ممّا تكتب شيئاً من الدفء, ولتعبّر عن حالة الاغتراب الذي تعيش, وكأن المكان جديد عليها يخلق لها جواً من الدهشة, ولا ضير في ذلك فكل الذين لا يبلغون أمانيهم يشعرون بالاغتراب عن المكان, ويبدؤون في البحث عن مكان آخر تتوفر فيه أسباب الراحة والهدوء, فكلما زاد الألم زادت الفجوة, وزاد القلق وبات السعي للتغيير أكثر إلحاحاّ.

“ما أصعبَ أن يكونَ الفراغُ

سرَّ أحزانِكْ

صارخةٌ

في نبضِ وجداني أراني

كما أنا لا تُرتّبُني الأحزانْ

من دفءِ المعنى

أُشبِهُ قصائدي

كم ملكَتْني دهشةُ المكان”

وتعود في مقطعها التالي, لتتحدث عن انفصام عضوي بينها وبين هذا الزمان, ونعني بالانفصام هنا وكأن هناك لا علاقة مطلقاً بين الطرفين ولا شعور متبادل بينهما, هذا الزمان الذي باتت تستنكره وتعرب عن عدم انتمائها إليه, ومردّ ذلك الشعور بالغربة كما ذكرنا, وهذا زمان من الطبيعي أن يستنكر الاسوياء انتماءهم لاعوجاجه. وهو الوضع الذي أجبرها على التّفكير بالسّفر للابتعاد عن هذا الزمان وعن هذا المكان, لأنها تشعر أن علاقتها بالزمان ليست علاقة راسخة مبنية على أسس صحيحة, بل تعتمد الصّدف والحظوظ, علاقة خالية من التخطيط والنظرة نجو مستقبل أكثر أماناّ واستقراراً, وهي علاقة أشبه ما تكون بلعبة النرد, التي جعلت من سيرتها ملهاةً, تدفع هي ثمنها دون أن تقترف ذنباً يذكر, وما أصعب الشعور بفقدان القيمة والاحساس بعدم التقدير.

“أنا مني ..لا أنتمي لهذا الزمان

حرةٌ أُسافرُ في بُعدي

ومِنْ بعدي مرايا الخطايا

إن كانت أوراقُ النردِ

تلهو بسيرتي فما ذنبي؟”

وتعود صرختها لتدوي في الفضاء من جديد, ولم تكتفي بالصراخ بل أصيبت بحالة من اللاشعور, قد تكون هذه الحالة أجبرتها على سلوكيات تبدو من اللاوعي, فهي ترى نفسها كعصفور له جناحان, تستطيع التحليق بهما والطيران, لكنها في لحظة تدرك أن هذا الطيران مجازي, ولا يمكن أن يحصل على أرض الواقع لاصطدامه بالواقع, فقد يحلق بك الحلم للسماء ويأتي الواقع بمخالبه الفتاكة ليلقي بك في مساحيق الأودية, ولم تكتف بذلك, بل نراها تخاطب الضوء’ ولم تكن لوحدها فهي تبدو وقد مرت بفضاءات مختلفة ورأت الكثيرين من أمثالها ممن علقت صورهم في عينيها, وجعلت منهم مثالاّ يحتذى, والذين منحوها جواز السفر للعبور لأنهم أدركوا تشابه وضعهم مع وضعها, فها هي تعبر إليهم لتستكشف عوالم جديده, وكأني بها هنا تتحدث عن همٍّ عالمي يعاني منه الجميع, سرعان ما تميط اللّثام عن هذا العالم الجديد, الذي وصفته بعالم الأحياء مقارنة بالعالم القديم, وليتضح فيما بعد أنّها ما تحدّثت عن هذا العالم, إلا لأن هناك وضعاً خاصاً أوجد فرقاّ, يستحق أن يلتفت إليه المتلقي.

صارخة

في سماءِ المجاز

كالفرَحِ أحلّقُ بجناحين

أخاطبُ الضوءَ

في عينَيْ قبائلُ شتّى

منحتني جوازَ العبورِ

إلى تشكيلةٍ تملكُ وجوهاً جديدةً

تكشفُ اللثامَ عن وطنِ الأحياءْ

وتنجلي الحقيقة في سطورها الأخيرة, حيث يكون الوباء هو محور الحديث وهو أساس البلاء, ونراها تتحدث عن الوباء بحدس يشير إلى تفاقمه وتزاحمه مستقبلاً, ما يجعل منه مشكلة يعاني منها الجميع, وكأنها لا ترى فسحة أمل للخلاص منه, ولتصفه الشاعرة بأنه مستنقع وجد العالم قدماه تنغرسان فيه, ولا يشتم الناس إلا رائحته العفنة. ومن الواضح هنا, أنّ لها عتباً على أصحاب القرار الذين لم يستطيعوا بعد الخلاص من هذا الوضع والخروج من هذا المستنقع, إذ من الواضح أن أصحاب القرار, قراراتهم خاطئة لا تقود إلا لخسارة تتبعها خسارة, وكان الخسارة هي الهدف.

عن الوباءِ المُرشَّحِ للازدحامِ

المستنقعِ الذي أخافني

وورّطني بخسارة

باختصارٍ ، نخطئ في القرارِ

نخطئ حتى فيمَنْ يمنحنا الهواءْ

خسارتُنا وُجِدَتْ للخسارة

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!