لـمحةٌ عن طلائع الأدب الـمَهْجري السُّوري وبعض أدبائه

آفاق حرة 

د. حسَّان أحمد قَمْحيَّة

يُعَدُّ الأدبُ الـمَهْجَري أَدبًا متميِّزًا فـي جَوانِبَ متعدِّدة منه، فقد نَشَأَ فـي ظروفٍ وبيئةٍ مُخْتلفَيْن عن الظُّرُوفِ التي دَرَجَ عليها الشُّعَراءُ العَرَب على مرِّ التَّاريخ. وكلُّ أدبٍ صِيغَ فـي الـمَهْجَر بعدَ ذلك لم يَحْمل تلك الصفَةَ التي حَملها الأدبُ الـمَهْجَري فـي البِلاد الأمريكيَّة؛ فقد حملَ هذا الأدبُ همومَ الوَطَن وقَضَايا الأمَّة فـي جزءٍ مهمٍّ منه، بينما تميَّز فـي جزءٍ آخَر فـي حالَةٍ من التأمُّل فـي الكَوْنِ والإِنْسان والحَياة؛ وما بينَ هذا وذاك أكملَ شُعَراءُ الـمَهْجَر طريقَهم فـي صياغَةِ أدبٍ جَميل لا يَزال الدَّارسون يَحْتَفون به ويَكْتبون عنه ويَتغنَّوْن بجماليَّاته.

لـَمْ تَكُنْ الظُّروفُ السِّياسيَّة والاقْتِصاديَّة والاجتِماعيَّة فـي بِلاد الشَّام، خِلال أواخِر العَهْدِ العُثْمانـي وفَتْرة الاحْتِلال الفَرَنْسي، على ما يُرام، مِـمَّا دَفعَ بعَدَدٍ من أَبْناءِ تلك البِلاد إلـى مُغادرتها سَعْيًا وراءَ أَرْزاقِهم وحُرَّيتهم، ومنهم أبناءُ مَدينَةِ حِمْص، لاسيَّما بَعْد أن تَوارَدْت الأَخْبارُ السارَّة عن الحياةِ الرَّغيدة فـي القارَّة الأمريكيَّة وعن ثرواتها الكَبيرة، سَواءٌ فـي الشِّمال أو فـي الجَنوبِ الأمريكيّ، بمُخْتلف بلدانِهما. ويُعَدُّ العاملُ الاقْتِصاديُّ العامِلَ الأهمّ والأَقْوى فـي هذه الهِجْرة، التي بَدأتْ إلى الشِّمالِ الأَمريكي فـي البدايَة. ولكن، لم يتَّجهِ الـمُهاجرون إلى جَنوبِها إلَّا بعدَ وُصُولهم إلى الشِّمال بنَحْو عِشْرين عامًا. وبذلك، تَنَامَتْ لدى بَعْضِ أَهْلِ الـمَدينَة الرغبةُ فـي الهِجْرة إلى القارَّة الأمريكيَّة. ومع أنَّ أوائلَ الـمُغْتربين الحِمْصيِّين لم يَكُونوا على عِلْمٍ ومَعْرفة بلغَة تِلْك البِلاد وعاداتِها وتَقاليدها، لكنَّهم سرعانَ ما اندمَجوا فـي ذلك الـمُحِيطِ – مثلهم مثل غيرهم من الـمهاجرين الأوائل – وعَمِلوا بنَشاطٍ وإِخْلاص وقاسُوا مِن الـمَشقَّات الكَثير، دونما يَأْسٍ ولا إِحْبَاط.

بَدأتْ هِجْرةُ بَعْضِ أَهْلِ حِمْص إلى أَمريكا، مِثْلها مِثْل الهِجْرةِ من أماكِن أُخْرَى في بِلاد الشَّام، فـي الثُّلثِ الأخير من القَرْن التَّاسِع عَشَر دون أن يَكونَ لهم أثرٌ أدبـي يُذكَر فـي البِدايَة؛ وازدادتْ مع بداياتِ القَرْنِ العِشْرين. ولكن، كانت تَتراجَعُ أو تَزيد حَسب الظروفِ السِّياسيَّة والأَوْضاع الاجتماعيَّة، وبلغت أَوْجَها عام 1913 م، غيرَ أنَّها – بِلا شكٍّ – قلَّتْ كَثيرًا بعدَ استِقْلالِ دُوَل الـمنطقَة وزوَال العَوامِل الدَّاعيَة إلى الهِجْرة، بشكلٍ أو بآخر. وربَّما أنَّ عَددَ الـمُغْتَربين من مَدينَة حِمْص والـمُنْحَدِرين من أَصْلابهم فـي سائِر أَنْحاء الدُّنْيا يَزيد على عَددِهم الـمَوْجود فـي حِمْص حاليًّا بكثير. ونَذْكر هُنا مـن بابِ الـمُقارِنَة أنَّه، خِـلال قَرْنٍ مـن الهجرة، زادَ عددُ الـمُهاجرين والـمُغْتربين اللُّبنانيِّين على ثُلْثي سـكَّانِ لبْنَان آنَذَاك.

بعدَ أن وَصلَ الـمُغْتَربون الأَوائِل إلـى دولِ أمريكا الجنوبيَّة، لاسيَّما البرازيل، لم تَكُن حياتُهم الأدبيَّة تَعْدو وَمضاتٍ ضَئيلة. فقد كانَ حَظُّهم من الثَّقافة يَسيرًا لا يساعدُ على القيامِ بأنشطةٍ أدبيَّة أو اجتماعيَّة جادَّة، كانوا فـي مُعْظمهم أُمِّيين يَبحثُون عن الكَسْبِ والرِّزق فقط. ولكن، ما إِنْ اقتربَ القَرْنُ التاسِع عَشر من نهايتِه حتى أخذت جُموعٌ أخرى من الـمُهاجِرين الجُدُد تَرْفد قَوافِلَ السَّابقين حامِلةً معها طلائعَ من الـمُتعلِّمين الذين راحُوا يُبدون اهتِمامًا بشُؤونِ الفِكْرِ والأَدَب والاجتِماع، فشَكَّلوا النَّواةَ الأولى لِـمَا أُطْلِق علَيْه لاحِقًا مُصْطَلح «أَدَب الـمَهْجر» أو «الأَدَب الـمَهْجري».

لقَدْ حَرصَ الـمُهاجِرون مـن مَدينةِ حِمْص، مِثْل الكَثيرِ من الـمُهاجِرين العَرَب من سُوريَّة ولبنان وغَيْرهم، بل ومِثْل هِجْرةِ العَديدِ من البَشَر على مرِّ التَّاريخ، على التمسُّكِ بما كانوا يُعايشُونه ويَأْلفونُه فـي بلادِهم الأصليَّة، ومن ذلك تَمسُّكُ أولئك الـمُغْتَربين الحَمامِصَة بعُروبتِهمْ وتَغنِّيهم بمدينَتهم وبثّها أَشْواقَهم وحَنينهم إليَها. وهذا ما دفعَ العَديدَ من هؤلاء الـمُغْتربين إلى إِنْشاء مُؤسَّساتٍ ومُنْتديَات وجمعيَّات ومُلْتَقَيات ونَوادٍ تَجْمعُهم وتُحْيي ذكرياتِهم وآمالَهم وأَحْلامَهم ورَغباتِهم ومُيُولهم؛ ولم تَكُنْ هذه التجمُّعاتُ ذاتَ صِبْغَةٍ ضَيِّقة، مَذْهبيَة أو طائفيَة، بَلْ كانت وطنيَّةً وعُروبيَّةً وإِنْسانيَّة، وقد اشتُقَّ اسمُ بَعْضِها من مَدينتِهم حِمْص، فكانَ هناك – على سَبيل الـمِثال – جمعيَّةُ الشَّبيبة الحِمْصيَّة فـي سان بَاولُو فـي البرازيل، ومِثْلها فـي بيُونس آيرس فـي الأَرْجنتين وفـي سانتيَاغو بدَوْلَة تشيلي، وجمعيَّات الإِخاءِ الحِمْصي فـي نيُويورك ونيُوجرسي وكاليفُورنيا من الولاياتِ الـمتَّحدة وفـي الـمَكْسيك. كما أنشأَ النَّادي الحِمْصي، الذي ظهرَ فـي سان باولو وبيُونس آيرس، جمعيَّةَ السيِّداتِ الحِمْصيَّات، فَضْلًا على مُنْتَدياتٍ أخرى كَثيرة. ويُشار هنا إلى أنَّ الجمعيَّات والنوادي اشُتُهر بها أهلُ الـمهجر الجنوبـي، على النقيض من أبناء الـمَهْجر الشمالي الذي افتقدوا كثيرًا من مظاهرها.

ومِن جُمْلَةِ ما دأبَ الـمُغْتربون من مدينَةِ حِمْص على إِحْيائه، رَبْطًا لهم وتَعْزيزًا لـمُيُول بَعْضِهم، تَشْجيعُ الأَدَبِ وتَكْريم أَعْلام بِلادِهم ونَشْر الرُّوح الوطنيَّة والعروبيَّة بَيْنهم، من خِلال نَواديهم ومُلْتَقيَاتهم، “وأَكْثر ما تجلَّى ذلك فـي أَعْمالِ النَّادي الحِمْصي، ويَعودُ الفَضْلُ فـي تَميُّزِ هذا النَّادي فـي سان باوْلُو إلى عددٍ من الـمُغْتربين الذين تولَّوْا أمرَ إدارتِه، مثل خَليل ديب، وشَفيق فَرح، ومِدْحَت غُراب، وداوُود شكُّور، ونَظير زيتون. كما يُشار أيضًا إلى أنَّ النَّادي الحِمْصيَّ فـي بيُونس آيرس (بَيْت العُروبَة فـي الأَرْجنتين) لم يَتْرك مناسبةً أو ذِكْرى وطنيَّة أو عُروبيَّة إلاَّ واحتفلَ بها؛ وكـان هذا النَّادي سَـبَّاقًا إلـى غَسْلِ الدُّمُوع وتَضْميدِ الجِراح وإِحْيَاء ذِكْرى نَكْبَة فِلَسْـطين، وغَيرها من الـمُناسَبات العربيَّة. ويُذكَر أنَّ رئاسةَ هذا النَّادي كانت للمُحْسِن الكَبير راغِب كيتلون طَوالَ خَمْسة عَشر عامًا، كما تَولاَّها غَيْرُه بعدَ ذلك، مِثْل إِبْراهيم أُورفَلـي وبَهيج عَبُّود.

وقد أسَّسَ مُغْتربو حِمْص جَمعياتٍ خيريَّةً لإعانَةِ الـمُحتاجين والـمَرْضى، مثل اليَدِ البَيْضاء النِّسائية الحِمْصيَّة والجمعيَّة الخيريَّة الإسلاميَّة؛ وكان هناك تعاونٌ بين الـمُغْتربين الـمَسيحيين والـمُسْلمين مـن مَدينَةِ حِمْص. ومـن الجَدير بالذِّكْر أنَّه لا يُنْسَى دَوْرُ الـمَدارسِ العربيَّة فـي تَعْليمِ أَبْناء مُغْتربـي حِمْص لغتَهم الأصـليَّة، وبجهودٍ فَرْديَّة.

وفـي الولاياتِ الـمُتَّحِدة الأمريكيَّة بدأت هِجـرةُ أَبْناءِ حمِص إليها فـي الرُّبْـعِ الأخـير من القَرْن التاسِع عَشر، لاسـيَّما إلى مدينَة نيُويُورك، وأَسَّـسُوا فـي نيُوجرسي جمعيَّةَ الإِخـاء الحِمْصي سـنة 1915 م، لِـمَدِّ يَـدْ العَـوْنِ إلـى الـمُحْتـاجين ودَعْم الأَعْمال الخيريَّة فـي الـمَهْجَر، ومُؤازَرة الـمَيْتمين الإِسْلامي والـمَسيحي فـي مَدينتِهم حِمْص.

رغم كثرة الأبحاث والدِّراسات التي تناولت الأدبَ الـمَهْجريّ، لكنَّها ركَّزت على أعلام معيَّنين فيه، بينما لم تَحفلْ بكثيرٍ من بقيَّة أعلامه، واكتفت بالـمُرور على نتاجِهم الأدبـي مرورًا سَريعًا أو عابرًا أو مُقْتَضبًا. وهذا الأمرُ لا يَخْفى على كَثيرٍ من دارِسي هذا الأدبِ أو الـمَعْنيِّين به حقَّ العنايَة. لقد مضى هذا التقصيرُ أبعدَ من ذلك عندما أغفلَ بعضًا من أدباء الـمَهْجر إِغْفالًا تامًّا. ولقد أشرتُ إلى مِثْل ذلك فـي عددٍ من الأعمال الخاصَّة بهذه الأدب، وأذكرُ على سَبيل الـمِثال – لا الحَصْر – تنكُّبَ دراسات الأدب الـمَهْجري عن الحديث عن الشاعِر والأَديب بَدْري فَرْكوح، وجُورج أَطْلَس، وسليمان ربوع، وجميل بطرس حلوة، وبترو الطرابلسي وغَيْرهُم. ولكنَّ اللافتَ للنطر أنَّ بعضَ أولئك الباحثين فـي الأدب الـمَهْجري كانوا على مقربةٍ زمنيَّة من أعلامه، ومنهم من زارَ بلادَ الاغتراب التي عاشوا فيها. لذلك، ربَّما كان تحصيلُ الـمعلوماتِ عنهم أَيْسرَ وأدقّ. أمَا وقد تباعدَ الزَّمن، ودَرَسَ بعضُ نتاجهم، فقد بات الوُصولُ إلى تلك الـمَعْلومات صعبًا، بل وشاقًّا أحيانًا.

كنتُ خِلال بَحْثي فـي جريدةِ السَّائِح عن قَصائِد للشاعر الـمهجري ندرة حدَّاد، لم يضمِّنها ديوانَه «أَوْراق الخريف»، أجد قصائدَ مختلفةً لشعراء مَهْجريين وغير مَهْجريين، فأقف عندَ بعضها لأتبيَّنَ من هم أصحابُها، عسى أن أبحثَ عن دَواوينهم وبقيَّة أشعارهم، فأتجاوز من جَمعَ شعرَه فـي حياته أو جُمعَ له ديوان بعدَ مماته؛ وأقولُ فـي نفسي لعلِّي أجمع شعرَ من لم يكن له ذلك. وكان تركيزي فـي هذه الـمرحلة على تقصِّي شعر أو أدب الـمَهْجريين السُّوريين، ضمن مشروعي الذي نَذرتُ نفسي له، وهو إحصاءُ أعلام الأدب الـمَهْجري السُّوري واستِدْراك شعر من لم يُجمع شعرُهم أو يُدرس أدبُهم فـي كتاب، لكن لم يغب عن بالـي أن أتوسَّعَ بعدَ ذلك – إن شاء الله – لأتقصَّى بقيَّةَ أدباء الـمهجر بشكلٍ عام، وأكثرهم من اللُّبْنانيين.

لقد هالَني ما وجدتُه من أنَّ أدباءَ الـمهجر أكثر بكثير مـمَّا ذكرته الـمراجعُ والكتب التي تناولتهم بالدرس والاستقصاء؛ فإذا كان جورج صيدح فـي كتابه «أدبنا وأدباؤنا فـي الـمَهاجر الأمريكية» قد تحدَّث عن وجود نحو 30 أديبًا مهجريًا فقط من سوريَّة، فقد أغفل كثيرًا منهم، فهو فوقَ هذا العدد حسب ما أوردنـي البحثُ فـي الـمَجَلّات والجرائد الـمَهْجريَّة، ولعلَّ الأديبَ بَدْري فَرْكوح من الأمثلةِ الواضحة على ذلك، وقد أفردتُ له كتابًا كاملًا تناولت فيه حياتَه وشعرَه.

ومن الجديرِ بالذكر أنَّني، عندما أخذتُ فـي جمع دواوين بعض الشعراء الـمهجريين وفـي تَرْتيب قوافـي قصائدهم، اعتمدتُ في ذلك على أَكْثر الأَقْوال تَداوُلًا، حيث أخذتُ فـي عينِ الاعتبار الترتيبَ حسب الرويِّ الـمُتَّفق عليه فـي القوافـي، كإهمالِ ألف الإطلاق وهاء الوصل والياء الـمُجرَّدة … وما إلى ذلك. وعِنْدما يتَّفق الرويُّ بين القَصائِد، يكون تَرتيبُ حروفُ الروي بَدْءًا مِنَ السَّاكِن فالـمَفْتوح فالـمَضْموم فالـمَكْسُور. وعندَ اتِّفاق القَصائِد فـي حرف الرويِّ وحركتِه، اعتمدتُ على الحرفِ السَّابِق للرويِّ أو الرِّدْف؛ فإذا كان حرفًا ليِّنًا أخذتُ به أيضًا، وكذلك على حرفِ التَّأْسيس. وعندما يتَّفق أمرُ الرويِّ فـي كلِّ ذلك فـي عددٍ من القَصائِد، لجأتُ إلى الترتيبِ حَسَب البحور، حيث كان الترتيبُ كما يلي: الطويل، فالـمَديد، فالبَسيط، فالوافِر، فالكامِل، فالهَزَج، فالرَّجَز، فالرَّمَل، فالسَّريع، فالـمُنْسَرِح، فالخَفيف، فالـمُضارَع، فالـمُقْتَضب، فالـمُجْتَثّ، فالـمُتَقارب، فالـمُتَدارَك، مع أنَّ هذه البحورَ لم يَكْتب عليها الشاعر جميعًا. وحينما يتَّفق الرويُّ والبحر أضعُ القصائدَ الأطول فالأَقْصر. ولكن، واجهتني مشكلةُ بعضَ القصائد التي فيها تَعدُّدٌ للقَوافـي، عندَ كثير من الشعراء الـمهجريين، وهنا أخذتُ بقافية الأبيات الأولى، بصرفِ النظرِ عن قوافـي بقيَّة القصيدة.

والآن سأعرض للشعراء الذين استكملتُ ما وردَ فـي دواوينهم من قصائد أو جمعتُها من جديد، وذلك حسب الترتيب الزمني للعمل على مدى عدَّة سنوات، فضلًا على ما قمتُ به من عناية بتلك الدواوين وتقديم لها عن حياة الشاعر وأغراضه الشعريَّة وخصائص شعره.

  • حُسْني غُراب (ديوان ودراسة)

كنتُ قد بدأتُ العَملَ على دراسةِ قَصائِدِ الشاعر الـمَهْجري حُسْني غراب، وأنفقتُ جهدًا كبيرًا ووقتًا طويلًا فـي البحث عن شِعرِه، إلى أن عثرتُ على ديوانه الـمُسَمَّى «أَناشيد الحَياة»، وسأشير إليه لاحقًا بالديوان القَديم. وقد تَبيَّن لـي خِلال ذلك أنَّ الديوانَ غيرُ موجود فـي الـمكتبات الخاصَّة ومعظم الـمَكْتباتِ العامَّة على أقلّ تَقْدير، إلى أن عثرتُ عليه بالصُّدْفَة فـي إحدى تلك الـمَكْتبات، وذلك بعدَ أن جمعتُ ما تَيَسَّر من قصائِده مـن مصادِرَ أخرى، لاسيَّما مَجلَّة «العُصْبَة» التي كانت تُصدْرُها رابطةٌ أدبيَّة فـي الـمَهْجرِ الأمريكي الجَنوبـيّ تُسمَّى «العُصْبَة الأندلسيَّة».

وبعدَ أن أنهيتُ الدراسة، ونشرتُها، عرضَ عليَّ بعضُ الإخوة الـمُهتمِّين إعادةَ نشر الديوان، الذي يعود الفضلُ فـي تجميعِ قَصائده ونَشره أوَّلَ مرَّة إلى الأديب الـمَهْجري الراحِل نبيه سلامة، وذلك بعدَ أن لـَمَسوا ما فـي شعر حُسْني غراب من جماليَّةٍ شعريَّة تَسْتأهِل النشرَ والانتشار. ولذلك، عَزمتُ على أن أعيدَ نشرَ هذا الديوان، ولكن بعدَ أن أَعْتني بمحتواه من جَديد، فأَضْبطُ كلماتِه وأَشْرح بعضَ ما استغلَقَ من مُفْرداته وتَعابيره، وأستخرج بحورَ قَصائِده، وأُعيد تَرْتيبَه أَبْجديًا حسب القَوافـِي، مع وَضْعِ بعض الفَهارس الـمُفيدة؛ وكلُّ ذلك لم يكن موجودًا فـي طبعةِ الدَّيوان القديم الصادرة عام 1986 م. وبذلك أُحقِّق غايتين من هذا العمل الإضافـي، حيث أُتيح قصائدَ الشاعر من جديد للباحثين من جِهة، وأَضْبطها وأُرتِّبها وأعتني بها بما يسهِّل أيَّ دراسةٍ أخرى له من جهةٍ ثانيَة. ومـمَّا يَجْدرُ ذكرُه أنَّني كنتُ أقارن قصائدَ الدِّيوان القديم بتلك التي وردتُ فـي أعداد مجلَّة العصبَة ومَراجِع أخرى؛ وقد وجدتُ بعضَ الاختِلاف والنَّقْص فـي مواضِعَ قليلةٍ جدًّا، فأشرتُ إلـى ذلك، فـي الحَواشي، وأَضفتُ النَّواقِصَ إلى الـمَتْن ِأحيانًا.

كما أخذتُ مـن دراسـتي للدِّيـوان، التي جـاءت بعنـوان «الشـاعر الـمَهْجري حـسني غراب – حياته وشعره»، مُقْتَطفاتٍ موجزةً عن سيرة الشاعر والبيئة الأدبيَّة من حَوْله، وجعلتُها فـي بداية الدِّيوان تيسيرًا على أيِّ بحثٍ لاحِق يتناول شعرَ هذا الشاعر الكبير. وقد حذفتُ من الطبعَة الراهنة للديوان ما جاء فـي الطبعَة القديمة (فـي القِسْم الثانـي منها) حولَ الـمَراثي النثريَّة والشعريَّة التي قيلت فـي حقِّ الشاعر، لأنَّني لم أجِدْ لها أهميةً كبيرة فـي الدراساتِ الأدبيَّة، النقديَّة والتَّحْليليَّة، الخاصَّة بشِعْر حُسْني غراب.

  • نَصْر سَمْعان (ديوان ودراسة)

كنت قد بدأتُ بالعَمل على دراسةِ قَصائِدِ الشاعر الـمَهْجري نَصْر سَمْعان بادئ ذي بدء، بعدَ أن قمتُ ببحثٍ طويل عن ديوانه الـمُسَمَّى «ديوان نَصْر سَمْعان» حتَّى وجدتُه. وتَبيَّن لـي خِلال ذلك أنَّ الديوانَ غيرُ موجودٍ فـي الـمكتبات الخاصَّة ومعظم الـمَكْتباتِ العامَّة على أقلّ تَقْدير، مثله مِثْل عَددٍ من دواوين الشعراء الـمَهْجريين.وبعدَ أن أنهيتُ الدراسة، ونشرتُها، وجدتُ أنَّ إعادةَ نشرِ الدِّيوانِ عملٌ جديرٌ بالاهتمام، لفقدانِ الديوانِ القديم منَ الأسواقِ ومعظم الـمَكْتباتِ العامَّة – كما ذكرتُ – وبسبب ما لـَمَستُه فـي شعر نَصْر سَمْعان من جماليَّةٍ شعريَّة فريدة يَسْتأهِل معها النشرَ والانتشار والدراسة. ويعود الفضلُ فـي تجميع قَصائده ونَشره أوَّلَ مرَّة إلى الأديب الـمَهْجري الراحِل رشيد شكُّور. ولذلك، عَزمتُ على أن أعيدَ نشرَ هذا الديوان، ولكن بعدَ أن أَعْتني بمحتواه من جَديد، فأَضْبطُ كلماتِه وأَشْرح بعضَ ما استغلَقَ من مُفْرداته وتَعابيره، وأستخرج بحورَ قَصائِده، وأُعيد تَرْتيبَه أَبْجديًا حسب القَوافـِي، مع وَضْعِ بعض الفَهارس الـمُفيدة؛ وكلُّ ذلك لم يكن موجودًا فـي طبعةِ الدَّيوان الأولى الصادرة عام 1972 م. وبذلك أُحقِّق غايتين من هذا العمل الإضافـي، حيث أوفِّر قصائدَ الشاعر من جديد للباحثين من جِهة، وأَضْبطها وأُرتِّبها وأعتني بها بما يسهِّل أيَّ دراسةٍ أخرى له من جهةٍ ثانيَة.

ولكن، عندما كنتُ أقارن قصائدَ الدِّيوان (الذي أشرتُ إليه بالدِّيوان القَديم) بتلك التي وردتُ فـي أعداد مجلَّة العصبَة أو غيرها من الكُتُب والـمَجلَّات الـمتاحة، أَجِدُ بعضَ الاختِلاف والنَّقْص فـي عددٍ من هذه القصائد، فأشـرتُ إلـى ذلك، فـي الحَواشي، وأَضفتُ النَّواقِصَ إلى الـمَتْنِ أحيانًا. كما لاحظتُ غيابَ بعض قصائد الشاعر تمامًا عن الدِّيوان القَديم، فضلًا على اكتشافـي لأبياتٍ متفرِّقة ربَّما كانت جُزْءًا من قصائِد لم أَعْثُر عَلَيْها. وقد دوَّنتُ كلَّ ما عثرتُ عليه، وذكرتُ ذلك فـي مَتْن نسخةِ الدِّيوان الجديد.

وبما أنَّني لاحظتُ اختلافَ عناوين القصائد بين ما ورد فـي الديوان وفـي الـمَجلّات أحيانًا، لذلك أكادُ أَجْزم أنَّ عناوينَ قَصائد الشاعر نَصْر سَمْعان اجتهدَ فـي وضعها جامِعُ الدِّيوان الأصلـي، إِنْ لم تَكُنْ جميعها فمعظمُها، وذلك تَسْهيلًا للفَهْرسَة؛ فلم يَكُن هناك فيما مَضَى من زمنِ الشعرِ اهتِمامٌ بما نُدْرجُه اليومَ تحت اسم «شِعْريَّة العنْوَان»؛ فعلى سبيل الـمثال يُلاحَظ أنَّ القَصيدَة التي مطلعها فـي الديوان «سُبْحانَ مَنْ رَفَعَتْ يَداهُ … دَعائِمَ السَّبْعِ الطِّباقِ» جاءت فـي مَجلَّة العُصْبَة بعنوان (الدِّين أَنْساها)، وهذا مُخْتلفٌ عن عنوانِها فـي الدِّيوان (قُمْ يا شَباب)؛ ولعلَّ غيابَ البَيْت القائل: «الدِّينُ أَنْساها الثَّميــنَ مِنَ الدَّمِ الحُرِّ الـمُراقِ» مِنَ القَصيدةِ الـمَنْشُورَة فـي الدِّيوان هـو سَببُ اخْتِلاف التَّسْمِيَة. ومن الـمَعلومِ أنَّ النشرَ فـي هذه الـمَجلَّة كانَ فـي حياةِ الشاعِر، بَيْنما جُمعَ الدِّيوانُ بعـدَ وفاتِه بعدَّة سنوات، وقد أشرتُ إلى ذلك بمثل هذا الكلام فـي تَعْليقي علـى القصيدة. وبناءً على كلِّ ما تَقدَّم، اجتهدتُ قدرَ الـمُسْتَطاع فـي وضع عناوين جديدة ومناسبة للقصائد التي لم يكُن لها عنوان، وإنما جاءت تحت مُسَمَّيَات خاصَّة بمناسبة أو غرض شعري (تَهْنئة، رِثاء، … إلخ)، بهدف تَوْحيد طريقة العَنْوَنَة، مـع أنَّني لم أتوصَّلْ إلـى مناسباتِ بعض هذه القصائد. كما أَعدتُ توزيعَ بعض القصائد، من خلال تجزئتِها إلـى مَقاطِعَ متناغمةٍ بسـبب وجود مثلِ ذلك الاختِلافِ فـي الديوان وغيره من الـمَراجِع، دون أن أغيِّر ترتيبَ الأبيات كما وردت.

وأَشـرتُ فيما أشـرتُ إلـى مَـواضِع الخلـلِ العَرُوضي فـي بعضِ الأبيـات أو إلى اختـلاف الـمَعانـي، وذلك فـي مواضع قليلة؛ فَصحَّحتُ ما أمكن تصحيحُه، وتركتُ ما تَعذَّر. ولا يعني ذلك أنَّ تلك العللَ العروضيَّة اقترفها الشاعرُ بشكلٍ مؤكَّد، بل ربَّما كانت من نوع التَّصْحيف، لاسيَّما وأنَّه لم يجمع ديوانَه بنفسه.

كما أخذتُ من دراستي للدِّيوان، التي جاءت بعنوان «عتبات النصِّ فـي ديوان الشاعر الـمَهْجري نَصْر سَمْعان – دراسَة أدبيَّة»، مُقْتَطفاتٍ موجزةً عن سيرة الشاعر الأدبيَّة وحياته، وجعلتُها فـي بداية الدِّيوان تَيْسيرًا على أيِّ بحثٍ لاحِق يتناول شعرَ هذا الشاعر الكبير. وقد حذفتُ من الطبعَة القديمة للديوان ما جاء فـي الصفحات الأخيرة منها حولَ الـمَراثي النثريَّة والشعريَّة التي قيلت فـي حقِّ الشاعر، لأنَّني لم أجِدْ لها أهمِّيةً كبيرة فـي الدراساتِ الأدبيَّة، النقديَّة والتَّحْليليَّة، التي تخصُّه. كما حـذفتُ عـدَّةَ مـقالاتٍ نَثْرية للشاعر، لأنَّ هدفـي كان استفرادَ قصائده فقط.

  • بَدْري فَرْكوح (جمع ديوانه)

ضِمْنَ سَعْيي لإحياءِ الأعمالِ الأدبيَّة لشعراء الـمَهْجر، وبحثي الـمُتَواصِل عن مَراجِعَ أو مَصادِرَ تناولت سيرَهم وأعمالَـهُم، عثرتُ على كتابٍ ثمين للشَّاعِرِ الـمَهْجريّ بَدْري فَرْكوح؛ وهو ليسَ ديوانَ شعر كما ذكرتْ بعضُ الكُتُب، بل مَجْموعة من الـمقالاتِ النثريَّة والقصائد مثلما ذُكرَ على غلافِ الكتاب الذي جاءَ تحت مُسَمَّى «قِيثارَة الشَّباب – مَجْموعة قَصائِد ومَقالات». وقد صدرَ هذا الكتابُ سنة 1929 ميلاديَّة. وفضلًا على ما اشتمل عليه الكتابُ من مقالاتٍ نَثْريَّة وقصائد باللغة العربيَّة، فقد ضمَّ عددًا من القصائد باللغةِ الإنكليزيَّة. ومن الجدير بالذكر أنَّ القصائدَ التي لم يُشَر إلى مصدرها مأخوذةٌ من ذلك الكتاب (قِيثارَة الشَّباب)، بينما أشرتُ إلى ما وجدتُه فـي غيره فـي الحواشي الـمرفقة بكلِّ قصيدةٍ أخرى.

قُمْتُ باستِفْرادِ القَصائدِ العربيَّة وضَبْطها ومُقارنتها بما وجدتُه للشاعرِ فـي كُتُبٍ أخرى، كما رتَّبتُها حسب القَوَافـي والبُحُور، واستدركتُ عَلَيْها بما استطعتُ الحصولَ عليه من تلكَ الكُتُب (مثل قَصيدة «طيّ الضُّلُوع» الرثائيَّة وقَصيدة «هَزَار البِشْر» فـي الـمَديح)؛ فالشاعرُ تُوفِـيَّ بعدَ نحو عشر سنواتٍ من إصدارِ كتابِه الآنف الذِّكْر، فلا بدَّ أنَّه نَظمَ بعضَ القَصائِد الأخرى (كقَصيدتِه فـي رِثاء الأَديب داوُود قُسْطَنْطين الخُوري الذي تُوفـِّيَ سنةَ 1939 م). وأعدتُ تَوْزيعَ بعض القصائد إلى مقاطِع بما يَتَناسب مع اكتمال الـمَعْنى. وهَدفـي من كلِّ ذلك أن أَخْرُجَ بديوانٍ صِرْف مُنْضَبِط للشاعِر يتسنَّى للباحثين فـي الشِّعْرِ الـمَهْجَري دراستَه والبحثَ فيه، حيث لم يتعرَّضْ لشِعْره – حَسْبما أعلم – أحدٌ آخر. وقد استطعتُ بعدَ جهدٍ جهيد أن أحصلَ على مئاتِ الأعداد من بعض الـمجلّات الـمهجريَّة، وأَخصُّ منها «جريدةَ السائح» التي كـان يُصْـدِرها الأديبُ الـمَهْجري عبـد الـمَسيح حـدَّاد فـي نيويورك و «مجلَّة الفُنُون» التي أصدرها الشاعرُ والأديب الـمَهْجري نسيب عريضَة فـي نيُويورك أيضًا، ولكن لم أجد فـيما توفَّر لـي من تلك الأعداد، وهي كثيرةٌ كما ذكرتُ، أيَّ مشاركةٍ لبدري فركوح. وهذا ما يؤكِّد ما ذهبَ إليه أدهم آل جندي فـي كتابه «أَعْلام الأدب والفنّ» من أنَّ حياةَ هذا الشاعر الـمَهْجري كان يكتنفُها بعضُ الغموض، ولم تكن سيرةُ حياتِه معروفةً لـمن حَوْله على ما يَبْدو؛ مع أنَّ هناك من أشار إلى أنَّه كان ينشر بعضَ نتاجِه الأدبـي فـي جريدة السَّائح الآنفة الذكر. ولكن من الـمُؤكَّد أنَّه كان يَنْشر فـي جَريدَة السَّمير الـمهجريَّة لصاحبها الشاعر إيليا أبو ماضي أيضًا، ومن هذه الجريدة الأخيرة أخذتُ بعضَ قصائده. ولا يفوتنا أن نذكر أنَّ الشاعرَ بدري فركوح كان ينشر العديدَ من مقالاته فـي أمَّهاتِ الجرائد فـي نيويورك، مثل التايمز وبروكلن أيكل والجورنال.

ومن الجَدير بالذكرِ أنَّني تردَّدتُ كثيرًا بشأن قصائدِ الشاعر الإنكليزيَّة الواردة فـي كتابِه «قِيثارَة الشَّباب»، هل أضربُ عنها صَفْحًا، فهي ليسَتْ من الأدبِ العربـي، أم أنقلُ فَحْواها إلى العربيَّة لأنَّها من الشِّعْرِ بأخيلتِه وصُوَره، مـمَّا يُتيح دراستَها والغوصَ فـي أعماقِ الشاعر من خلالها؟ وبعدَ التشاورِ مع من أهتمُّ لرأيِهم وأُنْصِتُ له، عَزمتُ على تَرْجمتها جميعًا كما هيَ إلى نَصٍّ عَرَبـي نَثْري. وللحفاظِ على الأشطرِ الأصلية للقصيدَة بالإنكليزيَّة، حرصتُ على الإبقاء على التَّقْديم والتَّأْخير فـي النصِّ العربـي ما أَمْكنني ذلك؛ ولم أُضِف شيئًا إلَّا لإِصْلاحِ العبارة العربيَّة أو إيصال الـمَعْنى الشاعِريّ الـمُراد بما يَقْتضيه النصُّ الأصلي. وآمل أنَّني وُفِّقتُ فـي سَبْرِ مَقْصُودِ الشاعر وتَجْسيد صُوَرِه ومَعانيه فـي تلك القصائد. وبقيَ أن أشيرَ إلى أنَّني لم أُبوِّبْ تلك القصائدَ الـمُتَرجَمة مع بقية القصائد العربيَّة، لأنَّها أصبحت بعدَ ترجمتها نصوصًا نثريَّة لا قافيةَ لها، وقد جَعلتُها فـي نهايةِ الديوان، فإن شاءَ أخذَ بها الدَّارسون والباحثون، وإن شاؤُوا أَعْرَضوا عنها. ومن الجدير بالذكـرِ أنَّ بعضَ تلـك القصـائِد لَـها ما يُقابلها أو يُشْبهها فـي القصائد العربيَّة للشاعر، كثيرًا أو قَليلًا.

وفـي مَعْرِضِ حَديثي هذا، لا يَفُوتني هنا أن أَدْعو لدراسةِ النصوصِ النَّثرية عندَ الشاعر، وهي منثورةٌ فـي كتابِه «قيثارة الشَّباب» وفـي بَعْضِ الـمجلّاتِ القديمة كمَجلَّة الزُّهُور.

وآملُ من كلِّ ذلك أنَّني قَدَّمتُ على مائدةِ البحثِ والدراسة شاعرًا مَهْجريًّا جديدًا يُضافُ إلى شُعراء الـمَهْجرِ الآخَرين الذين ما زالـوا طَيَّ النسـيانِ من بين الدِّراساتِ الأدبيَّة.

  • صبري أَنْدريا (جمع ديوانه)

ومن جملة مَنْ أغفلته الدِّراساتُ تمامًا الشاعِرُ والإِعْلامي الـمَهْجري صَبْري أَنْدريا، حتَّى لا يكاد يَعْرفه أحد، لا نجد له أيَّ ذِكْر فـي مراجع الأدب الـمهجري. ولولا صحافةُ الـمَهْجر لـمات ذكرُه بلا رجعة. ومـمَّا يثير الاستغرابَ كثيرًا أنَّ جامِعاتنا، لاسيَّما جامعات البلدان التي خرجَ منها أدباءُ الـمهجر، ما زالت غائبةً غيابًا شبهَ تام عن رصد أولئك الأدباء وتتبُّعِ نِتاجهم والخروج به إلى حيِّز النور. كما أنَّ بعضَ تلك الجامعات تصرُّ على دراسة ظواهر مكرَّرة لِثُلَّة قليلة من أدباء الـمهجر دون أن تكلِّف نفسَها عناءَ توجيه طلبة الدِّراسات الأدبية العليا للبحثِ عن أولئك  الأدباء الـمَهْجريين الـمَغْمورين، وجَمْع ما تركوه من شعرٍ ونثر، ودراسته لضخِّ دماء جديدة فـي دِراسات الـمَهْجر؛ فشاعرٌ مثل نصر سَمْعان هو فـي شعره أعلى درجةً من كثيرٍ مـمَّن أُشْبِعوا دراسةً؛ ومع ذلك لا توجد حتَّى ساعة كتابة هذه السُّطور – فيما أعلم – أيُّ دراسة عنه، باستثناء الدراسة التي عَقدتُها له مؤخَّرًا تحت عنوان: «عَتَبات النصِّ فـي ديوان الشاعر الـمَهْجري نَصْر سَمْعان»، وقُلْ مثلَ ذلك عن حُسْني غُراب ونَبيه سلامة وسلوى سلامة وغيرهم.

وأودُّ أن أُشيرَ هنا إلى أنَّني لـم أَجْمعْ شعرَ صبري أَنْدريا لأنَّه من النمطِ الرفيع أو الـمتَّصِف بالشِّعْريَّة الـمتميِّزة أو غير الـمتَّصف بها، فهذا ليس هو الهدفَ الرئيسي، إنَّما لأنَّه جزءٌ من مسيرة الشعر الـمهجري وتاريخه، بل وحلقة من حلقاته، فضلًا على أنَّه من نَظْمِ أوَّل إعلامي مهجري نذرَ نفسَه وجهدَه للحديث عن يوميَّات أدباء الـمهجر وأنشطتهم، فكان شعرُه شبهَ مقتصرٍ على الـمناسبات، ولم أعثر له على قصيدةٍ نظمها فـي غير ذلك فيما استطعتُه من الوُقوف على ذلك الشعر. ولعلَّ معرفةَ جميع أطياف شعراء الـمهجر من حيث شاعريَّتُهم أمرٌ مهمّ فـي الوقوف على ماهيَّة الشعر الـمهجري بمختلف مستوياته وأغراضه واتِّجاهاته.

يخطئ من يظنُّ أنَّ الشعرَ هو من نَسْجِ الخيال فقط، أو للمجيء بصور خلَّابة وتشكيلات بنائية وتصويرية آسِرة، وإن كان ذلك هو تاجَ الشعر وعيونه؛ فالشعرُ عندَ العرب كان وما زال يؤرِّخ لـمفاصل حياتهم ووقائعهم وأنشطتهم، وهو بالفعل ديوانُهم الذي يُسْتَشفُّ منه ما قالوا وما فعلوا. وعلى مستوى أدب الـمهجر، فقد عرفنا تفاصيلَ حياة أدبائه من خلال ما تركوه لنا من شَعْر ونَثْر، وتعرَّفنا إلى نظرتِهم للكون والإنسان والحياة. وقد ضلَّ من وَسَم أدبَ الـمَهْجر الشِّمالـي – على سبيل الـمثال – بوَسْمٍ معيَّن من خلال قراءة أدب بعض شعرائه دون غيرهم، فمن قرأ لجبران خليل جبران ونسيب عريضة وميخائيل نعيمة وندرة حدَّاد فقد يخـرج برؤيةٍ معيَّنة قد لا تصـحُّ بالنسـبة إلـى سـائر الشعراء الـمَهْجريين الآخرين، مثـل بِتْرو الطرابلسي وجَميل حلوَة وبَدْري فَرْكوح وتَوْفيق فَخْر وكاتـي زريق وغيرهم؛ ومـن هنا تأتـي أهمِّيةُ جمع الشـعر، بصَرْف النَّظر عـن مسـتوى شِـعْريَّته، فمن خـلال قـراءة هذا النِّتاج الأدبـي نستطيع رسمَ صورةٍ أكثر دقّةً لتلك الـمرحلة من مراحل التاريخ الأدبـي.

لم أكن أعلم شيئًا عن صبري أَنْدريا قبلَ اطلاعي على صِحافَة الـمهجر الشِّمالـي، مثله مثل الكثير غيره؛ ولكن، بعدَ أن يسَّر اللهُ لي الحصولَ على آلاف الأعداد من بعض جرائد الـمَهْجر ومجلَّاته، مثل جريدةِ السَّائح لصاحبها عبد الـمسيح حدَّاد وجريدة السَّمير لإيليا أبو ماضي ومجلَّة الفُنون لنسيب عريضَة، عثرتُ على بعض الأدباء الـمهجريين الذين لم تحفل بهم الدراساتُ الـمهجريَّة سابقًا، وربَّما لم يسمع عنهم أحدٌ من قبل. ومن هؤلاء الإعلاميّ الـمهجري صبري أَنْدريا، ووجدتُ له بعضَ القصائد، فأخذتُ باستِفْرادِها وتَدْقيقها وضبط كلماتها والوُقوف على عَرُوضها وشَرْح بعض مُفْرداتها، ووضعتُ عناوينَ لبعض القصائد التي لم يكن لها مثل ذلك بحسب ما مشار إليه فـي الحواشي الـموافِقة. كما بحثتُ كثيرًا عمَّا يتعلَّق بحياةِ هذا الشاعر إلى أن وجدتُ شيئًا من ذلك هنا وهناك. كما وجدتُ قصيدةً قديمة له فـي كتاب «عَوَاطِف الأَبْناء نَحْوَ خَيْر الرُّؤَساء وأَعْطف الآباء [مَجْموعة تحتوي تاريخَ رُوفائيل هَواويني الدِّمَشْقي، أَسْقُف برُوكلن]، جمع: عمانوئيل أبو حَطَب، الصادر عن مطبعَة جَريدة مِرْآة الغَرْب فـي نيُويُورك سنةَ 1915 م». وأنا على يقين أنَّ هناك قصائد أخرى للشاعر، لكن لم أصلْ بعدُ إلى الصُّحُف أو الـمجلّات الأخرى التي ربَّما نشرَ فيها شيئًا من نِتاجِه أيضًا.

ومِـمَّا لفتَ انتباهي عندَ مراجعة صِحافة الـمِهْجر وجودُ العديد من الأخطاء فـي الـمعلومات التي وردت عن أُدبائه فـي الكتب والـمراجع التي تحدَّثت عن أعلام الأدب الـمهجري، كتَواريخ الوفـاة وتفاصيل السِّيرة الذاتيـة والأدبيَّة. ولذلك، أدعو دائمًا إلى العمل ما أمكن على تَحْصيـل تلك الـمَعْلوماتِ وجَمْع الأخبار عـن أعـلام الـمَهْجر مـن الدَّوْريَّات والـمَجلّات الـمهجريَّة، فهي أكثر مَوْثوقيةً ودقّةً مـن معظم تلك الكُتُب والـمَراجِع فـي مثل هذه الـمُعْطَيات. ويعـود هـذا الأمرُ إلـى أنَّ تلكَ الـمجلّات والصُّحُف كانت علـى مقربةٍ من أعلام الـمهجر، لذلك سجّلت يوميّاتهم وتفاصيلَ حياتهم عن كثب. وكانت تَسْتبين لـي صحَّةُ هذه الـمعلومات ليس فـي مجلّة أو صحيفة واحـدة فقط، بل فـي أكثر من ذلك.

ومن جديد يطيبُ لـي أن أتقدَّمَ ببالغ الشُّكْر والتَّقْدير للسيِّدة أَماندا فُوربِس Amanda forbes، أمينة الأَرْشيف فـي مَرْكز موييز خير الله لدراساتِ الانتِشار اللبنانـي (جامعةِ ولاية نُورث كارُولينا North Carolina State University)، لـما أَبْدته من استعدادٍ للتعاوُن معي وتزويدي ببعض صُحُف الـمَهْجر، حيث بلغ ما حصلتُ عليه من هذا الأرشيف الإلكترونـي عشراتِ ألوفِ الصفحات، وقد استغرقَ البحثُ فيها شُهورًا، لأجدَ الكثيرَ من الأدباء والشعراء الـمَهْجريين الذين طَواهُم الزمنُ دون أن يُلتَفت إلى نِتاجهم الأدبـي، بينما اقتصرت دراساتُ الـمَهجر على قدرٍ قليل نسبيًا من مجموع أولئك الأَعْلام. وانطلاقًا مـن هـذا الأرشـيف وغيره من الكتب الـمَهْجريَّة القَديمة الصادرة فـي الولايات الـمتّحدة الأمريكيَّة وغـيرها بدأتُ أجمعُ ما تيسَّر مـن نتاج أعلام مَهْجريين مَغْمُورين جدًّا، كـما ذكـرتُ سـابقًا فـي مَتْن هذه الـمقدِّمة، مثل جميل حلوَة وبِتْرو الطرابلسي وسـلوى سـلامة، فضلًا على هذا الكتاب الذي أُخْرِجُ من خلاله إلى النور الشاعِرَ والإعلامي الـمَهْجري صَبْري أَنْدريا.

  • بِتْرو الطرابلسي (جمع ديوانه)

ومن جملة مَنْ أغفلته الدِّراساتُ الشَّاعرُ والـموسيقي الـمَهْجري بترو الطرابلسي. لقد استقصيتُ ما تركَ بترو الطرابلسي من الشعر وما عُرف عن حياته، فوجدتُ هذا وذاك مُتَناثرًا فـي بضعة كتب ومَجلّات، فالتقطتُ كلَّ ما عثرت عليه عيني، وجمعتُه فـي هذا الكتاب. ومن أهمِّ تلك الـمَصادر مجلَّةُ السَّمير الـمهجريَّة التي كان يصدرها الأديبُ والصُّحُفي الـمَهْجري إيليا أبو ماضي، والجريدةُ غيرُ موجودة فـي الـمكتبات العربيَّة العامَّة ولا فـي مواقع الإنترنت حتَّى تاريخ كتابة هذه السُطور، ولكن يسَّر الله تعالى لـي الحصولَ على كلَّ أعدادها تقريبًا، بعد أن قادَنـي البحثُ إلى جامعةِ ولاية نُورث كارُولينا North Carolina State University (مَرْكز موييز خير الله لدراساتِ الانتِشار اللبنانـي)، ووَجدتُ فـي مَوْقعِها على الإنترنت ملفاتٍ لبعض الـمجلّات الـمهجريَّة القديمة، كمجلَّةِ «الفُنُون» التي كان يُصدرها الشاعرُ والأديب الـمَهْجري نسيب عريضَة، وقمتُ بمراسلتها سائلًا عن إمكانيَّة الحصول على أعداد من مجلَّتي السائح والسَّمير، فكان تجاوبُهم لافتًا للنظر، وقد زوَّدتني إحدى الـمُشْرِفات على الـمَوقِع بكثيرٍ من أعداد هذه الـمَجلَّة، وهي أمينةُ الأَرْشيف السيِّدة أَماندا فُوربِس Amanda forbes، وكانت غايةً فـي التعاون واللباقة، ووعدتني بإرسال الـمَزيد من الـمجلّات الـمهجريَّة إن تَوفَّرت. والجَريدتان بحقٍّ كنزٌ أدبـي ثمين يمكن الاستفادةُ منه كثيرًا فـي حقلِ الأدب الـمهجري.

وآملُ بعدَ كلِّ ذلك، أن أكونَ بعملي هذا قد أضفتُ لبنةً جديدة فـي بناء الأدب الـمهجري، وذلك من خلال إبرازِ نتاج عَلَمٍ من أَعْلامه، ربَّما ما ميَّزه عن غيره أنَّه مُلَحِّنٌّ مَهْجري، فضلًا على ما نظمه من شعرٍ ونثره من قصائد.

  • نَدْرة حدَّاد (استدراك على ديوانه أوراق الخريف)

ضِمْنَ سَعْيي لإحياءِ الأَعْمالِ الأدبيَّة لشعراء الـمَهْجر، وبحثي الـمُتَواصِل عن مَراجِعَ أو مَصادِرَ تناولَتْ سِيرَهم وأَعْمالُهم، اطلعتُ على ديوان للشاعر الـمَهْجري نَدْرة حدَّاد بعنوان «أَوْراق الخَريف»، وهو من أعلام شُعَراء الـمَهْجر بشكلٍ عام، ومن أبرز شُعَراءِ الـمَهْجرِ الشِّمالـي خاصَّة. وبما أنَّ ذلك الديوانَ صدرَ سَنةَ 1941 م، أي قبلَ وفاةِ الشاعر بنحو 9 سنوات، فهو بلا شكٍّ نظمَ الـمَزيدَ من القَصائِد التي لم يحتوِ عليها ذلك الديوانُ. ولهذا، أخذتُ أبحثُ عمَّا نَظَمه الشاعرُ ولم يَرِدْ فـي ديوانِه الوَحيد السابق الذِّكْر. وكان هَدفـي من ذلك أن أخرجَ بما أستطيعُ أن أصلَ إليه من أعماله الكاملة تحتَ عنوان «ديوان نَدْرة حدَّاد»، لاسيَّما وأنَّ ديوانَه الوحيد غيرُ موجودٍ فـي الأَسْواق أيضًا، ولا فـي الـمَواقِع الإلكترونيَّة، ويقتصر وجودُه على بعضِ الـمَكْتبات الحُكوميَّة العامَّة إذا أرادَ الدَّارسون البَحْثَ عنه.

وخِلال بَحْثي وَجدتُ له قصيدَةً فـي مجلَّةِ الـمَعْرض، تَعودُ إلى عام 1923 م، بعنوان «أَحْلى الحُبّ ما يَجْمَع»، وهي تَضمُّ 31 بيتًا، ولكن بالعودةِ إلى ديوان «أَوْراق الخَريف» وجدتُ جُزْءًا من هذه القصيدة بعنوان «الحُبّ» (15 بيتًا). ولعلَّ الشاعرَ لم يَأْنس لكلِّ أبياتِ القصيدة الأولى، فَاجْتَزأَ مِنْها بعضَ الأبيات التي راقت له على ما يَبْدو، وتَركَ بعضَها الآخر. وقد أَدْرجتُ فـي هذا الكِتابِ القَصيدتين مُنْفصِلَتَيْن. كما وجدتُ فـي الجُزْء الأوَّل من كتاب «الشَّواعِر الشَّريفَة» ليَعْقُوب رُوفائِيل أبياتًا من قصيدةِ «الرَّبيع» لم تُنشَر فـي ديوان أَوْراق الخريف، فأضفتُها إلى القصيدة كما هو مبيَّنٌ فـي موضعه من هذا الدِّيوان. وقمتُ بمقارنة قصائد ديوان «أَوْراق الخريف» بما نُشر منها أو من أجزاء منها فـي الـمقالات والـمَجلّات والكتب الـمهجريَّة، وأشرتُ إلى مواطنِ الاختلاف فيما بينها إن وُجِدَت. ولعلَّ سائلًا يقول: ما الهدفُ من تلك الـمقارنات ومن الإشارة إلى مواضع الاختلاف، أقول: لأنَّني أؤكِّد دائمًا أنَّ الشاعرَ ربَّما يعود إلى شعره بينَ الفينة والأخرى فيعدِّل بعضَ الكلمات أو الجُمَل فـي قصائده، مـمَّا يدلُّ على تطوُّر شاعريَّته ونظرته للأشياء وفهمه للأمور وسَبْره للمُعانـي الـمُرادَة، وهذا ما يبدو ردًّا مناسبًا على من يقدِّسون كلمات بعض الشعراء ويَرَوْن أنَّها لا يصلح أن تُبدَّلَ أو تُعدَّل، بل يُصرُّون على أنَّها جزءٌ لا يَتجزَّأ من بنيةِ القصيدة، ويَعقِدون التَّحْليلات ويُسَطِّرون الـمقالات حولَ تَفْسير سياقِها ومَدْلولاتها. ولكن، هذا لا ينفي أنَّ اختيارَ بعض الشُّعَراء لألفاظهم قد يكون له مرامٍ بعيدة ودلالات محدَّدة.

وبما أنَّ الشاعرَ نَدْرة حدَّاد كان ينشرُ معظمَ قصائده، وربَّما كلَّها، فـي جَريدةِ «السَّائِح» التي تَعودُ ملكيتُها لأخيه الأديبِ عَبْد الـمَسيح حدَّاد، أخذتُ أبحثُ عن هذه الجريدَة فـي الـمَواقِع الإلكترونيَّة والـمكتبات العامَّة فـي أكثر من دولةٍ عربيَّة، بما فيها سوريَّة. وبعدَ طول بحث وجدتُ عدَدْين وَرَقيَّيْن من «الأعداد الـمُـمْتازَة» للجَريدَة فـي دمشق والرِّياض، ولكن لم يكن فيهما قَصائدُ جَديدةٌ على قصائد «أَوْراق الخَريف». وقرَّرتُ البحثُ فـي الـمَواقع الأجنبيَّة، فَتَبيَّنَ لي أنَّ الجريدَة مَوْجودةٌ فـي عدَّة مَكْتبات عالـميَّة، مثل مَكْتبة الكونغرس ومَكْتبات جامعَة كامبريدج وبرينستون وميتشغان وتِكْساس وشيكاغو وغيرها من الجامِعات. وعملتُ على مراسلتها جميعًا، فلم أَحْظَ من عددٍ منه بأيِّ نتيجة، رغمَ الوعودِ الـمتكرِّرة والانتظارِ الطويل. ولكن، قادَنـي البحثُ إلى جامعةِ ولاية نُورث كارُولينا North Carolina State University (مَرْكز موييز خير الله لدراساتِ الانتِشار اللبنانـي)، ووَجدتُ فـي مَوْقعِها على الإنترنت ملفاتٍ لبعض الـمجلّات الـمهجريَّة القديمة، كمجلَّةِ «الفُنُون» التي كان يُصدرها الشاعرُ والأديب الـمَهْجري نسيب عريضَة، وقمتُ بمراسلتها سائلًا عن إمكانيَّة الحصول على أعداد من مجلَّة السائح، فكان تجاوبُهم لافتًا للنظر، وقد زوَّدتني إحدى الـمُشْرِفات على الـمَوقِع بنحو 500 عدد من هذه الـمَجلَّة، وهي أمينةُ الأَرْشيف السيِّدة أَماندا فُوربِس Amanda forbes، وكانت غايةً فـي التعاون واللباقة، ووعدتني بإرسال الـمَزيد من الـمجلّات الـمهجريَّة إن تَوفَّرت. والجريدةُ بحقٍّ كنزٌ أدبـي ثمين يمكن الاستفادةُ منه كثيرًا فـي حقلِ الأدب الـمهجري. وقد تردَّدتُ فـي إصدار الدِّيوان أو قُلْ: «الأعمال الشعريَّة الكاملة للشاعر الـمَهْجري ندرة حدَّاد»، حيث بقيتُ يَحْدونـي الأملُ فـي أن أعثرَ على قصائد أخرى له، لاسيَّما للفترة ما بين 1946 م إلى 1950 م عند وفاته، وخلال هذه الفترة لم أستطع الحصول سوى على بضعة أعداد من جريدة السائح التي كان الشاعرُ ينشر فيها نِتاجَه الأدبـي؛ وقد وَفَّت السيِّدة أَماندا فُوربِس بوعدها فأرسلَتْ لي بعدَ بضعة شهور كلَّ أعداد مجلة السَّمير الـمَهْجريَّة (لصاحبِها الشاعر إيليا أبو ماضي) تقريبًا، فوجدتُ فيها قصائدَ جديدةً لندرة حدَّاد، وأكثر ما أسعدنـي أنَّـي عَثرتُ على آخر قَصيدةٍ له قبلَ وفاته. وبذلك أكون قد جمعتُ معظمَ قصائد الشاعر إن لم يكن كلّها.

لقد كانت بعضُ القصائد الـمَنْشورة فـي جريدة السائح بلا عنوان، فاخترتُ عنوانًا لها من متنِ القَصيدة. ويبدو أنَّ معظمَ قصائدِ الشاعر ندرة حدَّاد، بعدَ إصداره ديوانَ أوراق الخريف، اقتصرت على قَصائد الـمناسبات، وهذا ما وجدتُه واضحًا فيما نَشَره فـي تلك الجريدةِ خِلال السنوات التي أَعْقَبت صدورَ ديوانه. وقد بلغَ عددُ ما وجدتُه من قصائدَ للشاعِر فـي الأعداد التي توفَّرت لـي من هذه الجريدة نَحْوَ 17 قصيدة، وقد أشرتُ فـي عنوان كلِّ قصيدة إلى أنَّها من ديوانِ أَوْراق الخَريف إِنْ كانت منه، وإلّا فَلا، تفريقًا لها عن القصائِدِ الـمُضافة من خارج ذلك الدِّيوان التي أوضحتُ فـي الحواشي أنَّها كذلك، مع أنَّ أَغْلبيةَّ تلك القصائد مؤرَّخة بعدَ صدور ذلك الدِّيوان، فهي حُكْمًا غيرُ موجودةٍ فيه، ولكنَّني بَيَّنتُ ذلك مَنْعًا لِلَّبْس. وقد بلغ إجمالـي ما أضفتُه إلى الديوان السابق للشاعر 30 قصيدة، أي نحو 41 فـي الـمائة منه، حيث ضمَّ «ديوان أوراق الخريف» 72 قصيدة للشاعر، كما استدركتُ بعضَ النواقص فـي قَصِيدَة الرَّبيع وغَيْرها. وأرجو أن أجدَ له قصائدَ جديدةً لأنشرَها فـي طبعاتٍ لاحقة إن شاء الله.

إنَّ جمعَ دواوين شعراء يمثِّلون محطَّةً رائدة فـي تاريخنا الأدبـيّ أو استكمال هذه الدواوين أو دراستَها، كشعراء الـمَهْجر، خيرٌ من إعادة أو عَقْد عشراتِ الدِّراسات عن شُعراء أُشْـبِعوا منها، وهذا متيسَّرٌ رغمَ بعض العَناء. والبابُ ما زال مفتوحًا لـمن أرادَ الدُّخولَ؛ فهنـاك نحو 180 شاعرًا مَهْجريًا عربيًا، أكثرهم من لبنان وسوريَّة. وكثيرٌ منهم لم يُستفرَدْ له ديوانٌ أو يُجمعْ شعرُه فيه، ناهيك عن دراستِه.

بقيَ أن أقولَ إنَّ مقدِّماتِ الدواوين الشعريَّة عتبةٌ من عتبات النصّ، وهي بمنزلة عتبةِ أيِّ بيت تدخله، لا يتأتَّى دخولُه إلا بالـمُرورِ عليها. ومن يتجاوز مقدِّمات الكتب، لاسيَّما الـمُطوَّلة منها، فهو يقصِّر فـي حقِّ نفسه وحقِّ الكاتب والـمؤلِّف والباحث؛ حيث إنَّ كثيرًا من الكتَّاب والدارسين يذكرون تفاصيلَ عملهم البحثي عبرَ تلك الـمقدِّمات، وهي ربَّما تجيـب عـن كـثيرٍ من الأسـئلة التي قـد تخطر ببال القـارئ خلال بحثه أو قراءته للكتاب.

  • ميشال مَغْربـي (استدراك على ديوانه)

ها أنذا أخطو نحو شاعرٍ مهجريٍّ جديد، لأستكملَ ما فات من ديوانِه «أَمْواج وصُخُور»؛ إنَّه الشاعرُ الـمَهْجري ميشال مَغْربـي، من أدباء الـمَهْجر الجنوبـي. ولهذا، أخذتُ أبحثُ عمَّا نَظَمه الشاعرُ ولم يَرِدْ فـي ديوانِه السابق الذِّكْر. وكان هَدفـي من ذلك أن أخرجَ بما أستطيعُ أن أصلَ إليه من أعماله الكاملة. وقد اخترتُ أن أسمِّي ما وجدته وما استدركتُه (من قصائد أو أبيات) وما استقرَّ فـي ديوانه السابق – وإن كان قليلًا – «ديوان الشاعر الـمَهْجري ميشال مَغْربـي». ولكنَّني لم أكتفِ بذلك، بل قارنتُ بين قصائده الـمَنْشورة فـي ديوانه الأخير ومثيلاتها التي سبقَ أن نَشَرها أو نُشرتَ له قبلَ ذلك فـي الصُّحُف والـمَجلَّات وكُتُب الـمَهْجر؛ وأشرتُ إلى مواطنِ الاختلاف فيما بينها إن وُجِدَت. ولعلَّ سائلًا يقول: ما الهدفُ من تلك الـمقارنات ومن الإشارة إلى مواضع الاختلاف، أقول: لأنَّني أؤكِّد دائمًا أنَّ الشاعرَ ربَّما يعود إلى شعره بينَ الفَيْنة والأخرى فيعدِّل بعضَ الكلمات أو الجُمَل فـي قصائده، مـمَّا يدلُّ على تطوُّر شاعريَّته ونظرته للأشياء وفَهْمه للأمور وسَبْره للمُعانـي الـمُرادَة، وهذا ما يبدو ردًّا مناسبًا على من يقدِّسون كلمات بعض الشعراء ويَرَوْن أنَّها لا يصلح أن تُبدَّلَ أو تُعدَّل، بل يُصرُّون على أنَّها جزءٌ لا يَتجزَّأ من بنيةِ القصيدة، ويَعقِدون التَّحْليلاتِ، ويُسَطِّرون الـمقالات لتَفْسير سياقِها ومَدْلولاتها. ولكن، هذا لا ينفي أنَّ اختيارَ بعض الشُّعَراء لألفاظهم قد يكون له مرامٍ بعيدة ودلالات محدَّدة.

إنَّ جمعَ دواوين شعراء يمثِّلون محطَّةً رائدة فـي تاريخنا الأدبـيّ، أو استكمالَ هذه الدواوين، أو دراستَها، كشعراء الـمَهْجر، خيرٌ من إعادة تحليل أو عَقْد عشراتِ الدِّراسات عن شُعراء أُشْـبِعوا منها؛ وهذا متيسَّرٌ رغمَ بعض العَناء. والبابُ ما زال مفتوحًا لـمن أرادَ الدُّخولَ؛ فهنـاك نحو 180 شاعرًا مَهْجريًا عربيًا، كثرتهم الكاثِرة من لبنان وسوريَّة. وكثيرٌ منهم لم يُستفرَدْ لهم ديوانٌ أو يُجمعْ شعرُهم فيه، ناهيكَ عن دراستِهم.

وقبلَ أن أدخلَ فـي عرضِ قصائد الديوان وتَبْويبها حسب البُحور والقوافـي وضبطها، أجريتُ دراسةً مصغَّرة شملت أغراضَ الشاعر وموضوعاته وخصائصَ شعره وبعضَ الظواهر التي اكتنفتها.

  • جميل بطرس حلوة (الديوان قيد الطباعة)

لقد كنتُ أوثِّق ما أصادفُه من شعراء وأدباء خلال البحث فـي الـمَجلّات الـمَهْجرية، وكانت تمرُّ أمامي قصائدُ كثيرةٌ لشاعر مَهْجري هو الأديبُ جميل بطرس حلوة، وما كنتُ أعرف أهوَ من لبنان أم من سوريَّة؛ فبحثتُ عن ديوانٍ له أو دراسة فلم أجد فـي بادئ الأمر، فعكفتُ على توثيق قصائده لأعودَ إليها فـي قادم الأيَّام وأجمعها فـي ديوان. ولكن من عادتـي عندما أبحثُ عن أديب أو شاعر، أن أفعلَ ذلك مرارًا وتكرارًا، قائلًا فـي نفسي عندما لا أجد شيئًا عنه أو إذا وجدتُ أشياء قليلة، لعلَّني فـي البحث الثانـي أو الثالث أو … أجد الـمزيدَ. وخلال البحثِ وجدتُ بضعَ مقالات عن هذا الشاعر كتبها الدكتور جورج ديمتري سليم، وهو الذي أشار إلى أنَّه جمعَ شعرَ ذلك الشاعر كلَّه أو معظمه، لكن يبدو أنَّه لم ينشره لسببٍ أو آخر.فـي الواقِع إنَّ ما جمعه وما كتبه ذلك الكاتبُ كان مادَّةً ممتازة لاستكمال ما جمعته من شعر جميل حلوة، وذلك أَفادَنـي كثيرًا فـي هذا الـمشروع.ولكن، بما أنَّني جمعتُ بعضَ قصائد الشاعر من جَريدة السائح، فسأكتفي بما لم أجده فيها وآخذه من مقالات جورج ديمتري سليم.

والعَتَبُ على الباحِثين السُّوريين فـي الأدب لقلَّة اهتمامهم بأدباء الـمهجر، لاسيَّما من مدينةِ حمص ومن أساتذة الجامعة، حيث إنَّ معظمَ أدباء الـمَهْجَر هم منها.

  • سلوى سلامة (كتابان أحدهما عن أدبها والآخر عن شعرها)

لقد بَحثتُ كثيرًا عمَّا تركَتْ الأديبة والشاعرة الـمهجريَّة سَلْوَى سَلامَة من نِتاجٍ أدبـيٍّ، واستطعتُ بفَضْلِ الله تعالى أن أَحْصلَ على هذا النِّتاج من أحدِ الـمَواقع الأجنبيَّة، كما عرفتُ شيئًا إضافيًا عن مَراحِل حياتها من دراسةٍ أجنبيَّة عن شعرِ الـمَهْجر، وقد أشرتُ إلى كلِّ ذلك فـي مَتْن هذه الدراسة. لقد لجأتُ إلى البحثِ عمَّا يتعلَّق بهذه الأديبَة فـي الـمَراجِع الأجنبيَّة بعدَ أن استنفدتُ البحثَ عن مُتَعلِّقاتها الأدبيَّة فـي الـمَصادر أو الـمَراجِع العربيَّة القَليلة التي ذكَرَتْها. كما سَعيتُ إلى الحُصُولِ على أعدادِ مجلَّة «الكَرْمة» التي كانت تُصْدرها هذه الأديبة، فلم أفزْ بذلك حتَّى سـاعةِ كتابة هـذه السُّطـور. ومـن الجهاتِ التي راسلتُها فـي سـبيلِ ذلك الـمَكتبةُ العامَّة فـي سان باولو بالبرازيل، حيث أقامت سَلْوَى سَـلامَة وكَتَبَتْ ونَشَـرَتْ، لكن لم أحظَ بأيِّ ردٍّ أو جواب.

كما حاولتُ جمعَ ما يمكن من قصائد سَلْوَى سَلامَة، وأَدْرجتُها هنا فـي البداية كاملةً (ثم عدلتُ عن ذلك لاحقًا بعدَ أن وجدتُ الـمَزيدَ من شعرها، فأفردتُ لهُ كتابًا منفصلًا)، قاصِدًا بذلك أن أدمجَ ما بين ديوانِها الصَّغير ودراسَة ما جاءَ فيه ولو بشكلٍ مختصر. كما رتَّبت القصائِدَ فيه حسب قَوافيها فـي الفَهْرس الأوَّل فـي مَطْلع الكتاب، ثمَّ فَهَرْستُها حسـب بُحُورها فـي نهايتِه.

لقد وقفتُ عندَ النثرِ لدى الأديبةِ سَلْوَى سَلامَة، وسعيتُ إلى تحليلِه وتفصيلِ أنواعه بشيءٍ من الدَّراسةِ والتَّحْليل الـمُوجَزين؛ فوجدتُ فيما وجدتُ أنَّها قارَبَت الخاطرةَ والقصَّة والحكايةَ والـمَقالَة والخطبة. ووَشَّتْ ما تَكْتب بسيرةِ فَهْمها للحياة والإِنْسان، وبما تراكمَ لديها من تجارُب وعِبَر وعِظات.

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!