أنطونيوالتلحمي .. مُناضل من الشرق / بقلم: طارق قديـس

كثيرةٌ هي صفحاتُ النضال في تاريخ الأردن وفلسطين الحديث، وكثيرٌ هم المناضلونَ الذين نذروا أرواحهم لمناهضة قيام الكِيان الصهيوني قبل وبعد وقوعِ النكبة عام 1948، وأغلبهم مجهولون طوى ذكراهم انكسار الجيوش في أرض المعارك، وانحسار الحماسِ في نفوس العِباد، فأمستْ أسماؤهُم تتساقط من ذاكرة الشرق المثقوبة بالأحزان دونَ أن يشعر بها أحد.

 ولعلَّ أنطونيو التلحمي الذي قامَ الدكتور سميح مسعود في كتابه ” أنطونيو التلحمي .. رفيق تشي جيفارا” الصادر عن دار”الآن ناشرون وموزعون” ببثِّ الحياةِ في سيرتِهمن جديد، وكأنَّه “لعازرُ” آخر  قد قام من بين الأموات، واحدٌ من أولئك المجهولينِ من مُناضلي الشَّرق الخارقين، والذين تخلوا عن عائلاتهم وملذات الحياة من أجل تراب الأراضي المقدسة، وساهموا بتطريز بطولاتهم في زمنٍ قاسٍ لا لأجل مجدٍ  زائفٍ، أو شُهرة شخصية، أو منصبٍ قيادييٍّ رفيع، وإنما لأنهم آمنوا بقضية واحدة وهي الدفاع عن الشرق في مواجهة الوكالة اليهودية وأطماعها الصهيونية انطلاقًا من فلسطين والأردن.

 أنطونيو التلحمي، ذلك المناضل الأممي، الذي ولد في كولومبيا لعائلة ينحدرُ الجد فيها من أصل فلسطيني ينتهي إلى بيت لحم، حمل في داخلهِ حُبَّ جدِّه لوطنه، ذلك الحب الذي زرعه فيه منذ أن كان طفلًا صغيرًا، وهو يحدثه عن ذكرياته في تلك البلاد الجميلة البعيدة، ليجد نفسه منغمسًا في العمل النضاليفي أمريكا اللاتينية مبكرًا، ومتحمسًا لتنفيذ الوعد الذي أخذه على نفسه أمام جده بأن يعود إلى فلسطين ليناضل فيها ضد الاستعمار البريطاني والصهيونية، وهو ما تحقق فيما بعد حينما استقال من وظيفته كمعلم، ليلتحق بصفوف المقاتلين في ثورة عام 1936 حتى نهايتها، ويعمل بالتنسيق معهم في جهاز الشرطة بمهام استخبارتية تفيد الثورة نتيجة للعلاقات المتينة التي كونها مع العديد من الضباط الإنجليز آنذاك، ويكون في الآن ذاته شاهدًا على مراحل صعود الثورة وانتهائها عام 1939،

 لم يُفوِّت هذا المُناضل – الذي شاءت له الأقدار -بعدَ عودته إلى كولومبيا وانخراطهِ في العمل الحزبي الفرصة بأن يعود للنضال إلى فلسطين مرة أخرى في عام 1946، ولكن هذه المرة من خلال عملية نوعية خلَّدتها صحيفة “فلسطين بوست” آنذاك، وهي عملية تفجير مجمع المؤسسات الصهيونية عام 1948، حيث أنه من خلال عمله في القنصليةالأمريكية كسائق للقنصل نفسه،وباعتباره مواطنًا كولومبيًّا مسيحيًّا، تمكن من تعبئة سيارة القنصلية بكمية ضخمة من المتفجرات، وإدخالها إلى ساحة المجمع دون تفتيش، وتفجيرها أمام مبنى الوكالة اليهودية التي لعبت الدور الأهم في تشجيع الهجرة إلى فلسطين،والفرارَ  من المكان دون أن يتمكنَ الصهاينة من الاستدلال على مكان وجوده.

 كما لم يدع أنطونيو كذلك فرصته الثالثة للمشاركة في النضال الميداني بعد نكسة حزيران عام 1967 من أجل تحرير أرضِ أجداده، وذلك بعد أن صقلت تجربتاهُ السابقتان في الشرق شخصيته وأفكاره، وكان قد عاد إلى كولولمبيا مجددًا، وتعرَّف إلى كلٍّ من تشي جيفارا وفيدل كاسترو وناضل معهما  لإنجاح الثورة الكوبية حتى تم لهم ما أرداوا، فيمَّم بعد ذلك برَحْلِهِ بأعوام عديدةنحو الأردن ليشد من أزر أبناء الوطن في مُصابهم، وقد كان واحدًا من المحظوظين باشتراكه في معركة الكرامة التي سطر فيها الجيش العربي الأردني مع الفدائيين وقتها أسمى معاني البسالة محطمًا أسطورة جيش العدو الذي لا يقهر.

 لقد تمكن الدكتور سميح مسعود بمهارة أن يغوص بعيدًا في يوميات هذا المناضل الأممي الفريد، ويفتح عيون القراء على صفحة منسية من ذاكرة المناضلين المنسيين في خضم مشاكل الأمة المعاصرة ونزاعاتها، مُعطيًا لهذا الراهب في محراب الثورات والحروب حقَّه بأن يعرفه الناس كإنسانٍ مسيحي صادق لم يبخل على أرضه بأن يكون واحدًا من المحاربين على الأرض وفي الميدان، ومؤكدًا في ذات الوقت على أهمية ما سعى أنطونيو لإثباته في مسيرة الكفاح بأن على هذا التراب ما يستحق النضال.

 

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!