السياسة الفلسطينية تحت الانتداب/ بقلم : سعادة أبو عراق

الحاج محمد أمين الحسيني

أوضحنا أن حكومة الانتداب البريطاني عمدت إلى تغييب الشعب الفلسطيني على أنه غير موجود، أو لا قيمة له عدديا، لدعم مقولة أن فلسطين أرض بلا شعب، وأنها فاتحة ذراعيها للهجرة اليهودية، لكن السياسة الفلسطينية لم تتشكل عبر الأحزاب كما أوضحنا في المقال السابق، إلا أن السياسة التي تكره الفراغ تمثلت في منهجين سياسيين؛ سياسة عائلة الحسيني بزعامة موسى كاظم ومن ثم الحاج محمد أمين التي كانت ضد الاستعمار البريطاني، والمشروع الصهيوني وسياسة عائلة النشاشيبي بقيادة (راغب) التي كانت ممالئة للاستعمار وراضبة عن المشروع الصهيوني، وكان المجتمع الفلسطيني موزعا كما هو اليوم بين فتح وحماس، بين الحسيني والنشاشيبي، ولقد عبر إبراهيم طوقان عن هذا التمزق والحير بقوله:
بني وطني، هل يقظة بعد رقدة ….. وهل من شعاع بين تلك الغياهب
فوالله ما أدري و لليأس هبة ………. أنادي (أميناً) أم أهيب (براغب)
إن السياسة التي يمكننا أن نقول عنها، إنها سياسة فلسطينية هي سياسة آل الحسيني بزعامة الحاج محمد أمين الحسيني
الحاج أمين؛ هذه الشخصية السياسية كانت تسبح وحدها ضد التيار، وهي ما يمكن أن نقول عنها بوثوق أنها الشخصية السياسية التي ملأت فراغا سياسيا كان يجب أن يملأه أحد من الناس، علاوة على انه من القلة المثقفة بين الزعامات العربية قبل الحرب العالمية الأولى وبعدها. ونستطيع أن نبسط ما نريد في النقاط التالية:
1 – كان لهرببرت صموئيل يد في تنصيب محمد امين مفتيا للقدس، وهو منصب غير سياسي، لعله يقوم بتديين السياسة, وييفتي نما بريده المندوب السامي، ولعل هذهة النقطة هي المثلبة التي امسك بها مناوئوه وخاصة غالب النشاشيبي
2- كما قلنا سابقا فإن حكومة الانتداب لم تعتمد سياسيين من الفلسطينيين، لكن عائلة الحسيني التي وجدت نفسها في مواجهة الانتداب, حينما انسحب رئيس البلدية آنذاك موسى قاظم الحسيني، من حفل تسليم مدينة القدس من العثمانيين للبريطانيين دون حرب، حينها قال الجنرال الإنكليزي إلنبي في خطابه(اليوم انتهت الحروب الصليبية), انسحب موسى كاظم، وكان انسحابه موقفا ثوريا ضد الانتداب ورفضا لهذه العنجهية، وموسى هذا هو والد عبد القادر الحسيني، والذي استشهد وهو يقود مظاهرة عام34 ضربا بأكعاب بنادق الجنود الإنكليز عن 81 عاما.
2- اعتقد أن شعور بعض أفراد عائلة الحسيني بقدرهم النضالي خلق فيهم الإلزام الوطني, فجعل منهم قادة سياسيين، فمحمد أمين الحسيني كان قد عين مفتيا للديار المقدسية عام 1921 خلفا لأخيه كمال، وكان من المعوّل علية أن يكون دمية في يد المندوب السامي، أي يديّن السياسة ويمشي في ركاب السياسة الاستعمارية متذرعا بالدين.
3- لكن وعيه السياسي كان اكبر من أن يظل حبيس الفتاوى الدينية، فراح يسيّس الدين، وبثوّر الناس، وينشئ مؤسسات اجتماعية تقوم بما تقوم به الوزارات، كالإشراف على الوقف الإسلامي وإنشاء المدارس والكليات الإسلامية ودور الأيتام، والمستشفيات والبنك العربي (بتخطيط مع احمد حلمي وبأموال من عبد الحميد شومان) والتخطيط لجامعة تفتتح في القدس عام 1951، وأنشأ اللجنة العربية العليا وهي هيئة عسكرية قوامها التنظيمات الفدائية التي يشرف عليها سراً، كما ورَئِسَ عام 1931 المؤتمر الإسلامي في القدس.
4- من هنا نجد انه كان واعيا للمرحلة، وما يجري بالخفاء, وانه سياسي وليس مفتيا فقط، ففي بداية حياته حكم عليه بالسجن 15 عاما لكنه هرب إلى سوريا, وتحت الضغط الشعبي أفرج عنه وعاد ليصبح مفتيا، ويدل هذا على شخصية سياسية موهوبة له أتباعه وجمهوره, وإبان ثورة عام 36 كان من داخل المسجد الأقصى يدير الثورة مما حدا بالمندوب السامي لأن يقيله من منصبه، ورغم ذلك كان هناك من يتهمه بمسايرة الإنكليز. لكنه في اجتماع قال فيه للمجتمعين ومنهم عبد القادر الحسيني وعز الدين القسام ( ما رأيكم أن تحاربوا الإنكليز وتتركوا لي محاربة اليهود؟)
5- فرَّ من ملاحقة الإنكليز إلى سوريا، وراح يعمل من هناك, لكنْ إثر نشوب الحرب العالمية تم اعتقاله من قبل الفرنسيين فهرب إلى العراق ليكون محرضا للضباط والجنود العراقيين بقيادة رشيد عالي الكيلاني لمحاربة الإنكليز عام 41 ،ويكون عبد القادر الحسيني ومجموعة من الفلسطينيين مشاركين عسكريا بهذه الثورة، وحينما فشلت هرب إلى إيران ثم إيطاليا وألمانيا.
6- سعى مع دول المحور أن يبني علاقات صداقة لعله يخفف من هيمنة الإنكليز والفرنسيين على الدول العربية، وحينما قابل هتلر قدم له مطالب من أحد عشر بندا، نجد فيها النزعة القومية، ومنها:
أ‌- فتح أبواب الكليات العسكرية الألمانية لتدريب الشباب العربي والفلسطيني بما يُعَدُّ نواه لجيش الجهاد المقدس في طوره الثاني.
ب‌- العمل على استصدار بيان من قيادة المحور يضمن الاستقلال لأكبر عدد من الدول العربية بعد انتصار المحور على الحلفاء في هذه البلاد. وإلغاء الوعد بإقامة وطن قومي لليهود.
ت‌- العمل على الحصول على أكبر كمية من الأسلحة وتخزينها، استعداداً لمرحلة قادمة، وقد قام بالفعل بتخزين السلاح في مصر وليبيا وجزيرة رودس.
ث‌- نجح في تكوين معهد لإعداد الدعاة في ألمانيا، وقام بإقناع القيادة الألمانية بوضع داعية في كل الفرق العسكرية التي بها مسلمون، وفي نفس الوقت دفع بعض الشباب المسلم العربي إلى الاشتراك في الجيش الألماني للتدرب على كافة الأعمال القتالية.
ج‌- نجح في وقف الأعمال الإرهابية ضد البوسنة(البوشناق) من جانب الصرب، ونجح في إقناع القيادة الألمانية بتشكيل جيش بوسني لمنع تكرار هذه المذابح، وتم بالفعل تكوين جيش من 100 ألف بوسني، ولكن تم تسريحه بعد انتهاء الحرب.
لكن هتلر رأى ما في البند ( ب ) فقط، سابقا لأوانه.
7- هنا نجد أن مجال عمله السياسي أوسع من الرقعة الفلسطينية لتمتد إلى العالم العربي والإسلامي، لكنه قبيل سقوط برلين هرب إلى فرنسا، وهناك اعتقلته السلطات الفرنسية لكن أصدقاءه في العالم العربي عملوا على تهريبه من هناك سرا بجواز سفر (معروف الدواليبي) المزوَّر إلى القاهرة, حيث استضافه الملك فاروق في قصره وذلك عام 1947
8- في هذه المرحلة الفاصلة كان وجوده فعالا حيث قام بإدارة الجهاد المقدس إلى أن تم إعلان قيام دولة إسرائيل فبادر إلى عقد مؤتمر فلسطيني لإقامة دولة فلسطين حسب قرار الأمم المتحدة 181، لكن مصر قامت باعتقاله هو وأعضاء الهيئة العربية العليا المشاركين في المؤتمر، الذين قرروا إقامة دولة فلسطين، وبالطبع فإن إقامة دولة فلسطينية متداخلة مع إسرائيل، سيجعل من ذلك خطرا عليها، فلن تقبله إسرائيل ولا بريطانيا ولا الدول العربية التي تستعمرها بريطانيا، لذلك تم اعتقاله, لإجهاض مثل هذه الحركة.
9- جرت تمثيلية دخول الجيوش العربية السبعة لتبييض وجوه الحكام أمام شعوبها واتقاءً لثورتها وتقاعسها عن نصرة فلسطين. على أن تقف عند خطوط التقسيم، لكن الجيوش العربية لم تلتزم فقط بالوقوف على خطوط التقسيم، بل تراجعت، وراحت تنزع سلاح الفلسطينيين الذين كانوا يشترونه من مصاغ نسائهم ولقمة أولادهم، وتساعدهم أيضا على الرحيل.
10- بعد الإفراج عنه في مصر عام 48 رجع إلى القدس ولكن كان محظورا عليه تعاطي السياسة، بسبب دخول الضفة الغربية تحت الحكم الأردني، لذلك فإنه عام 61 غادر إلى بيروت ليتوفى هناك عام 74،
هنا نجد انفسنا أمام سياسي من الطراز الأول ذلك أن مؤهلاته كسياسي هي:
1- له شخصية كرزمية جدلية، جعلت منه شخصية محبوبة ومطاعة جماهيرية، اكنت معها أو ضدها، وذات خظوة عند أعدائها وأصدقائها، وهذه الشخصية قيادية وسياسية في آن واحد، وهي ميزة لا يملكها الكثير من الزعماء.
2- فكره العروبي الشامل الذي يرى أن لا بديل عن العمل القومي العربي, لذلك جعل من الفلسطينيين رأس الحربة والعرب والمسلمين نصابها.
3- لم ينحز أبدا للمستعمرين كما فعل راغب النشاشيبي وفخري النشاشيبي وعزمي النشاشيبي، فهؤلاء نبذهم المجتمع وكأنهم لم يكونوا، بل ذهب إلى محالفة دول المحور، وهو قرار شجاع لم يمتلكه غيره من السياسيين العرب، على قاعدة عدو عدوي صديقي.
4- وبما أنه قيادي حقيقي فإن اختياره لمساعديه كان موفقا، ذلك أن حدسه العالي لم يجعله مهتما لنفاق المتسلقين، فقد اختارهم من المتعلمين والمفكرين والوطنيين الأوفياء، مثل عبد القادر الحسيني وعز الدين القسام وأميل الغوري ومحمد عزت دروزة وأكرم زعيتر وكامل عريقات وقاسم الريماوي وغيرهم.
5- بعتبر من السياسيين الفلسطينيين الذين دخلوا التاريخ هو أبو عمار، بينما أحد لا يذكر السياسيين الفلسطينيين والعرب الذين عاصروه.
5- كان عليه أن يترك إرثا نضاليا مكتوبا يستفيد منه السياسيون اللاحقون لكن مذكراته لم تصدر إلا عام 1999 في دمشق في 510 صفحات عن دار نشر (الأهالي )

ربما تحتوي الصورة على: ‏‏شخص واحد‏، و‏‏‏‏لحية‏، و‏قبعة‏‏ و‏لقطة قريبة‏‏‏‏

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!