كوسوديه (كيمونو) بقلم محمد زعل السلوم

لصحيفة آفاق حرة:
…………………….

كوسوديه: كيمونو برسوم البط الصيني على قماش ساتان أسود
(Kosode kurorinzuji nami oshidori moyou)

محمد زعل السلوم

من روائع كنوز اليابان الثقافية
عن راديو اليابان الدولي
اشتهر الكيمونو كزي تقليدي ياباني، وأخذت التصاميم المرسومة على أثواب الكيمونو تتنوع في الفترة من القرن ال17 إلى القرن ال19 على وجه الخصوص. وهي فترة نعمت فيها اليابان باستقرار اجتماعي استمر 250 سنة، ولم تعكر صفوه أيُّ حروب كبرى، ونضجت فيه موضات الأزياء وارتقت إلى مستويات جديدة، وما نقدمه اليوم هو ثوب يمثل تلك الفترة.
اللون الأساسي لهذا الكيمونو هو الأسود، لكنه مزين برسم ديناميكي حقاًّ على الجهة الخلفية منه، إذ ترتفع من أسفل اليمين إلى أعلى اليسار عدة أشكال مثلثة صاعدة كبيرة مائلة كما لو كانت أمواجاً تتحطم، وكل مثلث منها ممتلؤ بنقاط بيضاء صغيرة جداً تعمل على إبراز شكله وإظهاره على الخلفية السوداء، وتتناثر من حواف المثلثات قطرات من الزبد مطرزة بخيوط ذهبية وهنا وهناك تبدو بطات ماندَرين مطرزة بخيوط ملونة وهي تقفز وتمرح.
ولكن هل ما يظهر في هذا الرسم بالفعل هو أمواجٌ بحرية؟
إن هذه المثلثات المائلة التي تبدو شديدة الشبه بالأمواج متداخلة أيضاً كأنها شِباك، فعندما نعدل نظرة عيوننا تتحول سلسلة المثلثات الآن إلى ما يبدو شبيهاً بصفٍّ لصيد الأسماك المعلقة على أعمدة لكي تجف، فشِباك صيد الأسماك تستخدم في اليابان منذ القدم كموضوع للمناظر الساحلية المحببة إلى النفوس.
ولا ينتهي الأمر عند هذا الحد، فإذا دققنا النظر عن قرب أكثر، نلاحظُ أيضاً براعم أو فسائل شبيهة بالنباتات منبثقة من رؤوس المثلثات، وهي مطرزة بخيوط خضراء اللون، وإذا عدلنا نظرتنا مرة أخرى، فستبدو المثلثات الآن كعيدان الخيزران حديثة التكوين. التي تعد شعارا يرمز إلى فصل الربيع في اليابان، وفي تلك الحالة يصبح شكل الشباك طبقة خارجية لعيدان الخيزران.
إذاً ماهي حقيقة هذا الشكل؟ وما طبيعة الشخص الذي يمكن قد يكون قد ارتدى مثل هذا الكيمونو؟
سألنا عن ذلك يوزروها أوياما الأمينة في مجال الأعمال المصبوغة بمتحف طوكيو القومي، لتقول : صُنع هذا الكيمونو في زمن كثرت فيه الرسومات التي تنم عن التفنن والتلاعب بالأشكال، حين كان يتم تركيب مداخلات ورسومات تتم مع بعضها البعض كما لو كان الغرض منها جعل الناس يتساءلون عن حقيقة ما تمثله كلها، وفي حالة هذا العمل فإنك أول ما تراه هو بط المندرين الصيني وهو يلهو في الموج، وبط المندرين هو في العادة رمز للسعادة الزوجية، أما الشِّباك فترمز للصيد الوفير. وتستخدم عيدان الخيزران بالعادة للتعبير عن النمو بقوة ونشاط. إن معاني حسن الطالع المتنوعة هذه كلها متضمَّنة في الشكل، قبل هذه الفترة الزمنية بقليل كانت الموضة السائدة للملابس هي تغطية الكيمونو بشكلٍ تام برسوماتٍ جميلة. وقد تغير ذلك دفعة واحدة في النصف الثاني من القرن السابع عشر، وبدلاٍ من ذلك أصبحت الأشكال تُرسم بشكل أقواسٍ منفردة على الظهر ومتجهة من الحاشية السفلية إلى الكتف، مع ترك مسافة فارغة على الجزء الأيسر من الخصر. وهذا التباين الملفت يعطي إحساساً قوياً بالحركة. وربما هذا النوع من الكيمونو كان يُرتدى من قبل سيدات المدن الغنيات، وعند تدقيق النظر في هذا الكيمونو نرى أن الشكل مقصوص عند موضع الكم القصير، ويمكن أن يُستشف من ذلك أن الكيمونو ربما كان أصلاً ذا كمين طويلين متدليين، وكان مثل هذا النوع من الكيمونو يُرتدى من قبل النساء غير المتزوجات، وربما تكون مالكة الكيمونو قد طلبت قص الكمين عندما تزوجت لأنها كانت معجبة بهذا الكيمونو وأرادت أن تستمر في ارتدائه.
الكيمونو مدرج بالمتحف على أنه كوسوديه كيمونو برسوم البط الصيني على قماش ساتان أسود، وقد كان الكوسوديه أصلاً ثوباً داخلياً يُرتدى من قبل أفراد الطبقة الأورستقراطية تحت أنواع مختلفة من الثياب الخارجية، ومع مرور الزمن أصبح هو ذاته يرتدى كثوب خارجي، وبحلول القرن الخامس عشر أصبح وجوده مترسخاً على أنه الثوب الأكثر استخداماً للرجال والنساء على حد سواء بغض النظر عن الطبقة الاجتماعية التي ينتمون إليها. وكان الكوسوديه مفتوحاً من الأمام ويتدلى إلى الأسفل باستقامة ويُلفُّ في بحبوحة حول الرجلين، ويغلق باستخدما حزام أوبيا عريض على الخصر. والأثواب التي توصف بأنها كيمونو هذه الأيام كلها عبارة عن أنماط مختلفة من الكوسوديه. وكان اختيار التصميم الخاص بظهر الكوسوديه هو السمة المميزة للثوب.
دعونا ندقق النظر أكثر في هذا الكوسوديه بالذات، القماش الأساسي عبارة عن نسيج نسيج ساتان حريري بأشكال هندسية، واللون الأسود للقماش يسر الناظرين بمسحة خفيفة من اللون البني، وهذا اللون الذي كان شائعاً في تلك الفترة اُستحدث بالقيام أولاً بصباغة القماش باللون الأحمر ثم طلاء الصبغ الأسود فوقه بعد ذلك.
وبالانتقال إلى المثلثات التي يمكن رؤيتها على أنها أمواجٌ أو شِباكٌ لصيد السمك أو عيدان خيزران حديثة التكوين، فإن البقعة البيضاء التي تملؤها تماماً أُنتجت بأسلوب الربط والصباغة، وتم ذلك عن طريق تجعيد عقدٍ صغيرةٍ من القماش للأعلى وربط محيطها بخيطٍ بشكلٍ محكم لمنع تعرضها للصبغ. وكانت الأجزاء غير المصبوغة تبقى كنقاطٍ بيضاء حتى بعد عملية انتهاء الصباغة. وعملية الربط تترك العقد في شكلٍ يملي على القماش شكلاً مميزاً، وهي عملية بالغة الدقة وتتطلب مجهوداً عظيماً. لكن هذه الأقمشة كانت تلقى دائماً إقبالاً على نطاق واسع كعنصر أساسي لتصاميم أثواب الكيمونو الراقية.
ثم هناك تطريز، فبط مندرين الصيني وعيدان الخيزران مطرزة بألوان باستيل دقيقة تبعث على الانشراح، وكان التطريز أيضاً جنباً إلى جنب مع الصباغة فأسلوب الربط والصباغة عنصرا رئيسياً لصنع أثواب كوسوديه.
كان الجمع بين الأساليب المختلفة لهذا الشكل الكلي يتطلب حساً فنيّاً راقياً، فمن هو الشخص الذي صمم ثوباً على هذا النحو؟
مرة أخرى ها هي أوياما من متحف طوكيو القومي تتحدث إلينا : لم يكن هناك أي مصمم أزياء على النحو الذي لدينا الآن لذا لا نعرف من صممه، ولكن تم في النصف الثاني من القرن السابع عشر إعداد أول كتاب يحتوي على عينات لتصاميم أثواب كوسوديه، واستمر بعد ذلك انتاج المزيد من الكتب كل سنة تقريباً. وكانت وظيفتها مماثلة في طبيعتها لوظيفة مجلات الموضة في أيامنا هذه. ولنفترض أن الناس كانوا يطلبون التصاميم المختلفة لأثواب كوسوديه الخاصة بهم عن طريق اختيار التصاميم التي يحبونها من كتب العينات. وربما كانت الصور الأصلية قد رسمت من قبل فنانين محترفين مستقلين، وأُنتجت عدة مئات من النسخ المطبوعة باستخدام الكتل الخشبية لبيعها في متاجر الكتب. وتم نشر أكثر من 100 عنوان بين أواخر القرن السابع عشر ومنتصف القرن الثامن عشر. والحقيقة أننا نجد هذا النمط ذاته بشكل ملفت للنظر على الجانب الأيمن مع مسافة فارغة من الخصر فما فوق على الجانب الأيسر، ونجد هذا في كتب العينات الأولى من هذا النوع، هذا الشكل ما نراه بالضبط على ثوب كوسوديه الذي ننظر إليه اليوم.
كانت كتب العينات مليئة بأحدث تصاميم الأزياء، وتخبرنا أوياما المزيد عن نشأة هذه الكتب : سادت فترة سلام بعد سنوات طويلة من الحروب، وكان سكان المدن مثل كيوتو وايدو وهي مدينة طوكيو حالياً يجمعون الثروات بالاعتماد على مواهبهم الذاتية، واعتقد أنهم وجدوا في الثياب طريقة لاستعراض نجاحهم وقوة نشاكهم الاقتصادي بصفتهم سكان المدن. وفي مجال النشر أيضاً وقبل ظهور تصاميم الكتب هذه، كانت أنواع مختلفة من أساليب تحسين الذات قد أصبحت بالفعل تحقق مبيعات جيدة جداً، مثل أدلة المعارف الضرورية للسيدات والمناسبات الموسمية ونسخ مبسطة من الأعمال الأدبية الكلاسيكية لسكان المدن. وهناك عامل آخر ربما يكون قد ساهم في حدوث تحولات في تصاميم أثواب كوسوديه في هذه الفترة وهو حرائق ايدو الكبرى. فقد أحرقت النيران مدينة ايدو بأكملها وفقدت النساء الكثير من مقتنياتهن من الملابس، وبسبب الحاجة لانتاج أعداد كبيرة لأثواب كوسوديه الجديدة، لابد أنه كان من المنطقي للغاية أن يتم اختيار أشكال كبيرة ملفتة للنظر بدلا من الأشكال الدقيقة التي تتطلب المزيد من العمل. ولابد أن الاختراع الجديد المتمثل في كتب العينات كان من شأنه الترويج لمثل هذا النمط.
أحد الكتب التي نشرت في بداية القرن الثامن عشر يتضمن صورة لثلاث نساء هن أمٌّ وابنتاها أثناء قيامهن باختيار تصاميم أثواب كوسوديه، وكانت هناك عدة كتب لعينات التصاميم موضوعةٌ أمامهنّ، وتدعو الأم ابنتيها لاختيار التصاميم التي تعجبهما وتريد البنت الكبرى شيئاً فيه ورود أما البنت الصغرى فقد أذهلها الشكل غير العادي. وكانت جميع كتب التصاميم مطبوعة تقريباً بلا ألوان، وكانت كل صفحة تبين ثوب كوسوديه مختلفاً جنباً إلى جنب مع شروح بسيطة عن الألوان والطرق التي سيتم استخدامها عند صنع الثوب. وكانت المعلومات المتضمنة غير كافية لأخذ فكرة كاملة عن الشكل لكن العميل وصانع الكيمونو يمكنهما استخدامها أيضاص ليضعا معاً تصور المُنتج النهائي وتحويله إلى شيء فريد من نوعه حقاً، ذلك الكتاب الذي أشرنا إليه أيضاً يتضمن صورة تبين إحدى البنتين وهي تجرب ثوب كوسوديه الخاص بها، ويساعدها العامل على ارتدائه ويقول إنه يبدو جيداً، وتقوم البنت الثانية وربما كانت الصغرى بتحويل المرآة نحو أختها قائلةً لها : انظري إلى نفسك. ونكاد نسمع نبرات الإعجاب في أصواتهن وقد فتنتهن أثواب الكيمونو الجديدة الخاصة بهن.
أصبح سكان المدن الحديثو العهد بالثراء ينغمسون بشكل متزايد في أحدث موضات الأزياء، وفي عدة مرات تم حفظ مبالغتهم في ذلك بمقتضى التشريعات، واستجابت ثقافة الكيمونو بأن أصبحت أكثر رقياً وأناقةً، وتم اعتماد أشكال فائقة الصغر لا يمكن رؤيتها إلا عن قرب، وظهر نمط جمالي جديد يعمل على خلق تفاوتات دقيقة جدا من خلال استعمال الألوان البني والرمادي وغيرهما من الألوان الرزينة. بعد ذلك فتحت اليابان أبوابها على العالم الخارجي، وسرعان ما بدأ الرجال يرتدون الملابس الغربية بدلاً من الكيمونو لكن النساء تمسكن بأثوابهن الكيمونو. ولم تتحول غالبية النساء اليابانيات إلى الثياب الغربية كثياب يرتدينها في حياتهن اليومية إلا في منتصف القرن العشرين.
أما ثوب كوسوديه فالشكل ينم عن القدرة على التلاعب بالأشكال وهو يتسم بالديناميكية، ويعبر عن اثاة فترة كان ارتداء كيمونو جميل فيها هو بمثابة متعة خالصة.
…….
دمشق

عن هشام شمسان

هشام سعيد شمسان أديب وكاتب يمني مهتم بالنقد الثقافي والأدبي ، ويكتب القصة القصيرة والشعر . له عددمن المؤلفات النقدية والسردية والشعرية .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!