لَيلةٌ باكِيةٌ (في ذِكرَى وَفاةِ أَحمَد)

آفاق حرة
كتب/ سامي أبوبدر _ مصر

لم تكَد الحافلةُ التي تُقلني للعودةِ إلى مدينة الطائفِ حيث أُقيمُ وأعملُ تتجاوزُ حدَّ الحَرمِ المكيِّ؛ حتى أخذتُ أُراودُ نفسي عن هدوئِها، وتأبَى إلا أن تَبقى مُضطربةً على قلقٍ خفيٍّ، لا تستجيبُ ولا تَهدأُ، فحاولتُ إلهاءَها بإمعانِ النظرِ من خلفِ زجاجِ الحافلةِ الشفافِ إلى سماءِ المدينةِ المقدسةِ؛ لأرى القمرَ شارعًا في تَناقصِهِ الذاهبِ بهِ إلى الاختفاءِ؛ بعد أن اكتملَ بدرًا ليلةَ أمس، في رسالةٍ إلهيةٍ متكررةٍ تُنذرُ بأنَّ لكل مُبتدأٍ مُنتهَى، وأن “لكل شيءٍ إذا ما تمَّ نُقصانُ”.
سقطَ بصري على السياراتِ المتسارعةِ عن يَمينِ الحافلةِ يُطاردُ بعضُها بعضًا كأنها فرائسُ تَفرُّ من قَساورَ، أوعَالمٌ صغيرٌ مُوازٍ يتسابقُ أهلهُ؛ أَيُّهم يصلُ محطتَهُ أولاً! وعلى جانبِ الطريقِ بيوتٌ وعماراتٌ تربضُ في أَحضانِ الجبالِ الشاهقةِ تتقاسمُ معها سُكونًا مُوحشًا.
في غمرةِ التأملِ وضعتُ رأسي على الزجاجِ، هائمًا فيما يتراءَى لي من ملكوتِ اللهِ، لِتنسابَ إلى ذاكرتي أحداثُ الساعتين الماضيتَين، وتَتداعى بتفاصيلِها التي لم يُغادر أثرُها قلبي حتى اللحظةِ، وأنا أُسائلُ نفسي: لِمَ بكيتُ كثيرا هذه الليلة؟! ولِمَ توقفتُ لأكثر من مَرةٍ مُرتجفًا باكيًا في ذلكَ الممرِّ القصيرِ الواصلِ بين صَحنِ الكعبةِ المشرفةِ وجبلِ الصَّفا حيثُ مِبتدأ السعيِّ؟! لا سببَ واضح! إلا أن تكون لحظةَ صفاءٍ شفَّ القلبُ فيها ورَقَّ؛ فاستشعرَ عظمةَ خالقِه والخوفَ منه عند بيتِه المحرَّمِ، وبعد الانتهاء من السَّعيِ؛ على غيرِ عادةٍ مرَّت أمامي نعوشُ الموتى الذينَ صلينا عليهم صلاةَ الجنازةِ في طريقِها إلي الدفنِ، لِتنشرَ رائحةَ الموتِ من حولِي، وليتوقفَ قلبي وأنا أعبرُ بين نَعشَين منهما، أحدُهما نعشٌ لِطفلٍ! يا الله! أنا لا أقوَى على كل هذا الوجَعِ، ولا تَستطيعُ تجاوزَهُ مشاعري المهلهلةُ، أنا لم أَعِشْ رهبةً كهذهِ في هذا المكانِ المقدسِ منذ قُدومِي الأولِ إليهِ قبلَ عشرِ سنواتٍ! وبينما يزيدُ القلقُ من حصارِه لفؤادي الهَشِّ تَفشلُ مُحاولاتي البائسةِ لتجاهلِهِ هربًا من ضَعفِي أمامَه، وبي رغبةٌ مُوجسةٌ أن أصمدَ حتى أجدَ ما يبرِّرُهُ ولو لم يكن منطقيًّا، لكني في ذلك أيضًا أَخفقتُ.
مع تكرارِ المحاولةِ، والمقاومةِ، نجحتُ أخيرًا في إرغامِ خيالي على أن يجتازَ بذاكرتي الحدودَ، لِينطلقَا معًا سائحَين هناكَ في مراتعِ الطفولةِ والصِّبا، هناك في قريتِي الطيبةِ، مهدِ أحلامي التي نَسجتُها من براءَاتِي مع أَقراني وأترابي، وأولئك الأصحابِ والأصدقاءِ والزملاءِ الذين فرَّقَت بيني وبينهم سِكَكُ الاغترابِ ودروبُ الأمنياتِ، وأسبابُ العيشِ. هدأتُ مُستغرقًا في التفكير المشوبِ بالأسَى على تلكِ الأيامِ الجميلةِ، وذكرياتِها التي لم تَخُنْها ذاكرتي في غُربتي يومًا، حتى استدعتني تلك الذكرياتُ المؤنسةُ للاسترخاءِ على وِسادتِها؛ لعلي أستريحُ من ذلك القلقِ الذي يطاردُني في تلك الليلةِ، تلكَ التي لم تكُن من بين آلافِ الليالي التي انقضَت من عمري ليلةً عاديةً، ولم أَنْسَ أيًّا من تفاصيلِها الدقيقةِ.
فجأةً! انتبهتُ فَزِعًا لِرَنَّةِ رسالةِ واردةٍ عبرَ (الماسِنجر)، فاسترَقَتْ نظرةً مني إلى الإشعارِ على سطحِ الشاشةِ، دونَ تركيزٍ أو رغبةٍ في معرفةِ صاحبِها، ولَم أُعِرهَا اهتمامًا، مُحاولاً التَّشبُّثَ بما بلغتُ من الهُدوءِ والاطمئنانِ أَلَّا يُسرَقَ مِنِّي، ولسانُ حالي يقولُ: ليستْ كلُّ الرسائلِ مُهمةً، وليسَ ضَروريًّا أن ….، (لَم أكملْ ما أُحدِّثُ بهِ نفسي)، عُدتُّ فورًا وبكاملِ وَعيي إلى الرسالةِ، فقد لَمحتُ في الإشعارِ اسمَ المرسلِ، إِنها (هـ) خالةُ أولادِي في مصرَ، إِنها لم تُحدِّثني من قبلُ عبر الماسنجر! بدأَ قلبي يَرتجفُ ليبلغَ ما لم يَبلُغْهُ من رَهبةٍ، وفي تَرقُّبٍ حَذِرٍ امتدَّتْ أناملي المرتعبةُ لِتفتحَ الرسالةَ، ويَقيني أنها لا تحملُ خيرًا، ووقعَ في نفسِي أَن ما مررتُ به الليلةَ ما كانَ إلا تَهيئةً لأمرٍ جللٍ ومصيبةٍ مُفجعةٍ.
خَمسُ طعناتٍ تَتوالى إلى قَلبي، خمسُ ضرباتٍ تَطرقُ رأسِي دونَ رَحمةٍ (أَحمد ابن أبوك إبراهيم مات)، تَصلَّبتْ عينايَ على الكلماتِ الخمسِ، وكدتُّ أَفقدُ الوعيَ من هولِ ما أقراُ، حاولتُ التماسكَ لأعيدَ قراءَتها مَرةً ثانيةً، وثالثةً، لعلَّ خَطأً كِتابيًّا أو إِملائيًّا يُشتِّتُ ما بدأَ يَتشبَّثُ بكونِه حقيقةً لا مفرَّ منها، وخابَ رَجائي، فالرسالةُ لي، ولا خطأَ فيها، والإخبارُ عن الموتِ لا يحتملُ الكذبَ أو المزاحَ؛ لِتُسيطرَ عليَّ رَعدةٌ أَعجزُ معها عن فعلِ أو قولِ شيءٍ قبلَ أن أنفجرَ باكيًّا عاجزًا عن كتمِ الألمِ، فقد كانت المفاجأةُ أكبرَ من أن تُستوعبَ، والصدمةُ أفجعَ من أن تُحتوَى والآهُ أقسَى من أن تُطاقَ فتُكْتَمَ.
أردتُّ أن أعرفَ ماذا حدثَ، وكيف ماتَ! فقد كانَ أحمدُ صحيحًا مُعافًى، كان آخرَ من سلَّمَ عليَّ لِيُودعَني قبلَ أن أستقلَّ السيارةَ من أمامِ بيتِي مُتجها إلى المطارِ، وقبل ذلكَ بثلاثةِ أشهرٍ كان أولَ من سلَّم عليَّ مُستقبِلا إيايَ حينَ وصلتُ البيتَ قادمًا من السعوديةِ، كان بصحةٍ جيدةٍ، ولا أَعلمُ أنه مَرضَ مرضًا شديدًا، أو أنه يعاني من شيءٍ سوى حساسيةِ الصدرِ المزمنةِ التي تلازمُه منذُ طفولتِه، لكنه كان يُقاومُها بقوةٍ وعزيمةٍ وحبٍّ للحياةِ، هل كانت صدفةًَ أن يكون أولَ من يَلقاني عند وصولِي وآخرَ من يُودعُني عند سفري في تلك الإجازةِ دون كلِّ إجازاتي السابقةِ؟! وكأنه أرادَ أن يَخطَّ هذينِ المشهدينِ في ذاكرتِي لِيختمَ بهما قصةً جميلةً بدأتْ منذ وُلدتُّ بعده بيومين فقط، قصةَ ابْنَيْ عَمَّينِ كانا أقربَ من شقيقينِ، قصةً مليئةً بالأحداثِ والذكرياتِ التي لا يمكنُ أن يمحُوها زمنٌ يمرُّ على ذاكرةِ وَفِيٍّ، وإذا برسالةٍ أُخرَى فهمتُ مِنها أنه ماتَ فجأةً على فراشِه، فتنتابُني حالةٌ من النِّقمةِ على الغُربةِ التي حرَمَتني النظرةَ الأخيرةَ إليهِ، ثم الصلاةَ عليهِ، ووداعَه إلى مثواهِ الأخيرِ، مثواهِ الذي سَلَبني جزءًا غاليًا وبريئًا من حَياتِي.
آه يا أحمد!! إن ما كانَ بيننا أجلُّ من أن ترصدَه الأناملُ أو الألسنُ، وأرقُّ من أن تحتويَه دَفَّتَا كتابٍ لا قلبَ له ليخفِقَ معي، كلما سَكبتُ فيهِ ذِكرَى لنا! طفولةٌ وصِبًا، وصداقةٌ وزمالةٌ، تَقاسمناها لحظةً بلحظةٍ وحدثًا بحَدثٍ، ما بين لَعبٍ وجِدٍّ، وخصامٍ وصُلحٍ، وعنادٍ ولِينٍ، معًا ضحكنا كثيرًا، ومعًا بكينا كثيرًا جدًّا، بكينا معًا يوم أن ضرَبَنا أحدُ الفلاحينَ في قريةٍ مجاورةٍ ضربًا مبرحًا بأشجارِ القطنِ الجافةِ والتي نزلَت على ظهرَينا كالسياطِ، وعُمرُنا حينذاكَ لم يتجاوز الثانيةَ عشرةَ، وذلك لأننا عجَزنا عن مواصلةِ العملِ كبقيةِ (الأنفارِ) في جني القطنِ في أولِ تجربةٍ لنا مع هذا العملِ الشاقِّ، ظلَّ ذلك الرجلُ الفظُّ يضربُنا دون رأفةٍ حتى أَشفقتْ علينا امرأةٌ أربعينيَّةٌ تعملُ معنا، وحالت بينَه وبينَنا، ثم تَكفَّلَتْ بمساعدتنا طوالَ النهارِ، وبرغم ذلك عُدنا مُبتهجَينِ نلعنُ الرجلَ وندعو للمرأةِ، وفي جيبِ كلٍّ منا جنيهٌ هو أجرةُ اليومِ آنذاكَ، واتفقنا على ألا نبوحَ لأهلِنا بما حدَث لنا، فقد كانوا رافضينَ خروجَنا لهذا العملِ، ثم وافقُونا استجابةً لرغبتِنا في تقليدِ أقرانِنا.
بَكينا معًا حين وصلَ بنا عنادُ الأطفالِ (الصُّغارِ) بضم الصّادِ المشددةِ، إلى أن قُمتَ بخَلغِ بضعِ شُجيراتِ قُطنٍ من أرضِنا؛ فانتقمتُ بخلعِ أكثر من مئةٍ شُجيرةٍ من أرضِكم، ولما علِم أبوَانا اشتكيَانا إلى عمِّنا حُسين ليؤدبَنا على ما اقترفناهُ بحقِّهِما وبحقِّ زرعِهما، فأغلقَ علينا (المندَرةَ) وانهالَ علينا ضربًا بحبلٍ غليظٍ، ونحن نصرخُ ولا مغيثَ، حتى تُبنا وعَزمنا على ألا نعودَ لمثلِ هذا أبدًا، وكان درسًا قاسيًّا.
بَكينا معًا يوم أن دَفَعتَ (المُرجيحةَ) بقوةٍ لتُحركَها بي إلى أعلَى، ففَقدتُّ توازُني وسَقطتُّ على جانبي الأيسرِ، فكُسِرتْ كتفِي كَسرًا استدعَى تجبيرَه لمدةٍ طويلةٍ، تَمرَّغتُ حينَها في الترابِ باكيًّا من شدةِ الألمِ، بينما كنتُ أسمعُ بكاءَك وجُملَتَك التي لا أَنساها: (واللهِ ما كنت أقصد)، ولا يزالُ أثرٌ من الكسرِ في كتفِي حتى الآن، كلما تَحسَّسْتُه تَذكرتُك وابتسمتُ، فقد أَصبحَ من أجملِ الذكرياتِ التي تركتَها لِي.
الذكرياتُ كثيرةٌ، وإن أقسَاها في حينِها أَجملُها اليومَ عندما يُراودُ خاطِري.
لم تكُن تسأمُ النفسُ مجالسَتكَ، كنتَ هادئًا مُنصتًا غير مجادلٍ ولا متعصبٍ، رحلتَ وأنتَ تكتُم من أسراري ما لا يعلمُه غيرُنا إلا اللهُ، فلم أُجربْ عليك خيانةً أو غدرًا، كنتَ خيرَ صاحبٍ وخير مُؤتَمنٍ، بارًّا بوالدَيك وإخوتِك، تتقدمُهم في العطاءِ، وتتأخرُهم في الطلبِ، عِشتَ نقيًّا وادعًا، ورحلتَ صفيًّا بريئًا، رحلتَ وتركتَ في القلبِ جرحًا لن يَلتئِمَ إلا بلقائِك يرحمُك الله.

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!