رحلة إلى الله ( 3)/ بقلم :محمد صوالحة

لم أستيقظ من نومي إلا على صوت أمي يداعبني انهض يا بني حضر أبو يونس وأنجزت المعاملات وسنغادر بعد قليل، الكل في الحافلة الآن نهضت  واتجهت إلى الحافلة ، وما هي إلا لحظات حتى غادرنا آخر نقطة من الأرض الحبيبة والتي لا تساويها أرض حتى لو كانت الأرض المقدسة .

انطلقنا وما هي إلا دقائق معدودة حتى وصلنا  ” حالة عمار ” ونحن في طريقنا إليها بدأ الخوف يتسلل إلى نفسي ، لأن رحلتنا هذه كانت في وقت حرج للغاية فالعلاقة السياسية بين بلدي والعربية السعودية متوترة ، نظراً للموقف من الحرب على العراق والذي اتخذ فيه بلدي موقفا مغايرا لكل أشقائه العرب، نعم الخوف يتسلل إليّ ،  ها نحن وصلنا إلى نقطة التفتيش الجمركي وهنا كانت المفاجأة، لم أتوقع أن نعامل بكل هذا اللطف .. نعم عوملنا بكل دفء ومحبة وكنت أشد الناس فرحاً بهذه المعاملة، ولم يكن شيء لينغص عليّ فرحتي إلا ذلك السؤال الذي غرس في قلبي من أحد الموظفين الخبثاء في المركز الحدودي حين قال: أنت من جيش صدام حسين ؟

وكانت إجابتي بعد أن تلونت الدنيا بعيني ، إننا في الأردن الوحيدون الذين نحمل شعار الجيش العربي ، فأنا لا أنضوي تحت راية جيش صدام أو غيره من الناس أو القادة ، ولكنني أنضوي تحت راية الجيش المصطفوي الذي يقوده حفيد المصطفى، ونحن جيش الحق العربي أينما اعتقادنا ، وبعد ذلك العراك الكلامي حضر مسؤول من الدائرة يسأل عن سر الصراخ والإشكالية، فأخبرته بما حصل ، وكانت ردة فعله بالنسبة لي مفاجأة حقيقية ، حيث نهر الموظف وأخبره أنني أولا ضيف الرحمن، وثانياً أنني شقيق ومواطن عربي لا علاقة له بالسياسة وبما يحدث خارجاً عن إرادتنا نحن المواطنين ، اعتذر مني وقد امتلأ القلب فرحاً برده وإحقاق الحق،ودعنا .

صعدنا إلى حافلتنا وسرنا باتجاه الجنوب ، وأخذت الحافلة تلتهم الطريق من جديد ،غابات من النخيل  ، طريق مستقيم وطويل والمباني الشاهقة أخذت تلوح أنوارها في الأفق، ونحن نقترب منها رويداً رويداً، أنا والسائق نحتسي الشاي وسيجارة “المارلبورو ” تفوح رائحتها سألته أبو يونس ما اسم المنطقة التي سنصلها ؟ فأجابني إنها تبوك ، عادت الذاكرة إلى التعب من جديد ما الذي تحمله تبوك من معانٍ في المخيلة  ؟

وهنا أخذتني ذاكرتي في رحلة يزيد عمرها عن ألف وأربعمائة عام حين ثارت الأرض بكل شواهدها ضد الروم فهزمتهم قبل أن تصلهم سيوف الله ، أي شيء تعنيه تبوك ؟ أي سماء هي التي تظل تبوك ؟ وأي أرض تقلها ؟  أي بحر يتشرف بمجاورتها؟ أية لحظات هي التي قادتني إليها؟ إذا ليكن تأجيل رحلتي إلى المدينة ولأبقى هنا أستطلع معالمها وأغوص في تاريخها ، لأتعرف على ما يحمله ابن تبوك من إرث إنساني وما علمته أمه الأرض الحرة .

أردت كتابة ملحوظاتي عن تلك المدينة الثائرة المدينة الحرة فضاعت مني الحروف وأنا الذي كنت قبل لحظات مشتعل بهاجس الكتابة عن هذه الأرض، عن هذا النخيل الذي يطاول السماء شموخاً وعزة   صغرت الكلمات أمام سموها وبهائها ، إذا بأي شيء أعبر عما يحتويني من مشاعر أكبر بكثير مما يمكن أن يعبر عنه مخزوني من مفردات ، أين أنا منك يا تبوك ، يا أرض النخيل وابنة السمو  ، ما أجمل حدائقها وهي تعكس نور الله ونور المصابيح، فتزداد أرضها بهاء وجمالاً، يسيطر عليّ الشوق لهذا التراب الثائر .

هذا هو التراب الذي ما زال يزهو بنصره على جيوش الروم القادمة من أرض الشام ، لتقتلع نبتة دين الله ، فكان للأرض جولتها وكانت كلمتها هي التي حسمت الأمر ، إنها حَمية الأرض، إنها الأرض التي إن شعرت بالظلم تحولت نيرانا تلتهم المعتدي ، طلبت من السائق أن تكون استراحتنا القادمة في تبوك ، فقال بشرط أن لا يتكرر جنونك في المدورة . حسنا : فقط لنستريح في تبوك ، وحقيقة كان الجنون يستعد للانطلاق ، أعد اللحظات للوصول إلى تلك الديار ، في الثانية صباحاً كان موعد وصولنا إلى المدينة التي أحببتها منذ رأت عيناي نورها من مسافات بعيدة ، اهدأ أيها العقل قليلاً فلست بالعارف لهذه البلدة التي لم تطأها قدماك حتى هذه اللحظة ،اهدئي أيتها الدهشة فلم تتوقف الحافلة بعد، اهدأ أيها الشوق  أيها الجنون قليلاً فما هي إلا لحظات حتى تتعرف إلى هذه الأرض، الكل نيام في الحافلة  إلاي وأبو يونس وأنوار المدينة وصوت الأرض الذي سمعته يناديني ألا أهلاً بالمشتاق ، هي ذات الأرض، وهو النخيل عينه ، تبوك هذه المدينة الساحرة بمبانيها الشاهقة التي توفرت لها الإمكانيات فطاولت أكبر مدن العالم جمالاً وسموا، تنظيمها نظافة شوارعها هدوئها أضاف بهاءً على بهائها، اتخذت لأمي وشقيقتي مكاناً في الاستراحة وطلبت لهم الوجبة التي يريدون ، وأطلقت لنفسي العنان ، إلى أين تقودني خطاي ؟ لا أدري  لأني لا أعرف أين أنا أكثر من أنني في تبوك ، معالم المدينة متشابهة والليل فيها واحدالقمر، كل أشيائها متشابهة وهذا مصدر جمالها .

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!