رحلة إلى الله 5) في الطريق لمدينة رسول الله

وسارت الحافلة .. الأرض تطوى تحت عجلاتها ورغم ذلك كنت أراها واقفة لا تتحرك، سيجارتي لا تنطفئ ، أمي تناديني من على بعد  مقعدين أو ثلاثة ..التفت إليه:  أرح جسدك بني هذا اليوم الثالث لك لم تعرف طعم النوم ، إن لجسدك عليك حق ، القهوة الشاي والسجائر كلها ستؤدي لقتلك، توكلي على الله يا أمي ، لن أموت إلا بعد أن أكمل دورة العمر المقررة من رب الكون . هذه الأرض،هذه الرمال وهذا الطريق الطويل يسرق النوم من عيوني ويشعرني بالمتعة الحقيقة والسعادة الغامرة ، التاريخ يا أمي يبقي القلب مستيقظاً ،أي تاريخ يا بني كلها أيام وترحل ولا يذكر شيء بعد الرحيل، لا يا أمي فعلى امتداد هذه الصحراء كان تاريخ الإنسانية الحقيقي، هنا يا أمي ولد النقاء والصفاء والحب، من هنا مرت ليلى، أخي أبا يونس إذا ما وصلنا تيماء أو اقتربنا منها فأخبرني ، لماذا ؟ فقط أخبرني ، دون أن أخبرك أعلم إذا ما توقفنا للاستراحة فلن تكون وقفتنا إلا عند مسجد تيماء فهي ليست بالبعيدة من هنا ساعة من الزمن أو ساعة ونصف حتى نصلها يعني ما يقدر بصنع إبريق من الشاي بالزعتر وشربه وكوب من القهوة حتى نكون قد استهلكنا فترة الساعة أو أكثر بقليل، حسنا فلن أسألك  بعد ذلك عن شيء .

صنعت إبريقاً من الشاي ورحنا نشرب نادتني أمي بقولها “يطلع لي أن أشارككم في هذا الإبريق” لأنك يا بني طردت النوم من عيني ، آه لو أعرف بماذا تفكر ، فمنذ زمن طويل لم تأتك لحظات الجنون التي تعيشها الآن ، حقا قد افتقدناها ، لأنها وحدها من تهبك القدرة على التحدي ألا يمكنك يا بني أن تنقل عدواها لبقية أهلك عساهم أن ينالوا درسا في مدرسة الحياة،أضحك،  لكِ هذا يا أمي سأعطيهم من ريقي.

أبو يونس ها نحن قد وصلنا إلى تيماء، ابحث عن نجمتك التائهة ،  حاول إصلاح ذاكرتك المثقوبة كما تريد  وليكن بعلمك أننا سنغادرها بعد صلاة الفجر مباشرة لنكون في المدينة المنورة عند آذان الجمعة .

حسنا، كلهم ذهبوا إلى المسجد إلاي، رحت أتأمل تلك الرمال، وتتراءى لي ليلى بشعرها الليلي اللون وعباءتها السوداء الشفافة وعيونها الواسعة ، كنت أحس أنها ما زالت هنا في هذا المكان أو ذاك تنتظر قدوم المحبوب ، أسمعها تناديه ألا يا ابن عمي ، يا كل القلب طال انتظاري لقدومك ، أحرقني الشوق لرؤياك ،  يوقظني من ذلك الجنون لسع الجوع ،   أحس بأني قادر على التهام كل ما أعثر عليه من طعام ، حملت شيئاً من أوراقي وقلما يكاد يلفظ ما تبقى به من مداد ، جلست إلى إحدى الطاولات والتي سميت مجازا طاولة وبدأت بالكتابة والتساؤل لماذا لم تقم ليلى في هذه الديار الأنيقة ؟  لما اتجهت إلى العراق ؟  أهو فرار أهلها بها من حبها ؟  وهل لبعد الديار أن ينسي الخل خليله ؟

كان إلى جانبي شخص عرفت بعد وقت قصير من جلوسي بأنه يمني ، وأنا الذي سألته عندما لمحت الخنجر المعقوف يتوسط بطنه ويعلوه حزام عريض من القماش الأخضر ، اعتقدت في البداية أنه عُماني ، قال لي بعد أن اعتذر عن تطفله علي  ما الذي تكتبه ؟  لا شيء فقط أدون ملحوظاتي وما تسعفني به الذاكرة من معلومات ومشاهداتي وانطباعي عن كل منطقة أدخلها حسب تأثيرها علي ، قال ماذا يعني ، لا شيء فقط العمر يمر سريعاً، غدا تنتهي هذه الرحلة ، وعندما أتذكرها في المستقبل أعود لهذه الانطباعات ، عرفني  باسمه الذي لم أعد أذكره فقط كل ما أذكره عن ذلك الرجل أنه كان كبير السن وأنه شاعر، قال لي أنه معروف في بلاده ، شاعر غنائي كتب الكثير من كلمات الأغاني لعدد من المطربين في اليمن ، وأسمعني شيئا من قصائده العمودية الجميلة .

عندما سمعت قصائده أيقنت بأن القصيدة العمودية التي تحارب من الحداثيين وكتاب ما يُسمي قصيدة النثر تستوعب كل ما جاءت به الحداثة ، وثبت لي بالوجه القطعي والذي لا يقبل الجدال  أن العيب ما كان أبداً في شكل القصيدة، وإنما العيب في الشعراء ،   بعد أن استمعت إليه لعنت كل وزارات الثقافة في الوطن العربي والتي تبخل على بنيها بإيصال أصواتهم لأشقائهم وأصوات أشقائهم إليهم ، ملعونة هي كل وسائل الإعلام ووزارتها والتي تهتم بالعري والفذلكات أكثر من اهتمامها بمثل هذا المبدع العربي والذي كنت على يقين بأن كثير من أبناء ديرتي لم يسمعوا باسمه وإن سمعوا به لم يحظوا بفائدة الاطلاع على إبداعاته .

قال هي دعوة مفتوحة لك لتكون في ضيافتي باليمن ، لتكتب عن البلد الذي كان سعيداً وتاريخه وستجد كل المساندة والدعم ليس مني فقط ولكن من كل أهل اليمن، من كل أبناء حمير وأحفاد بلقيس ومن كل الدوائر المختصة، من الثقافة والإعلام واتحاد الكتاب.

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!