مقتطفات من رسالة الأب إلى أبنائه. في رواية التغريبة السورية لأنور الخالد

 

 

أبنائي الأعزاء

منذ يومين خرجت من المعتقل وها أنا   اكتب لكم من  صمتي الذي امتد لأكثر من سبع  سنين  لم أتلق منكم كلمة ، ولم اسمع عنكم  نبأ عشت خليطاً مرعباً من العواطف والأحاسيس التي أمتزجت في قلب رجل  فقد فرحة أبنائه و لم يستطيع سماع أنين أوجاعهم . كثيراً ما كنت أعتبر ما مر بي  مبالغ في هذه الحياة أو خيال  ولكنه  للأسف كان واقعاً مؤلماً ، وكثيراً ما يكون الوهم أو الخيال و اللا ممكن  حقيقة ثابته ، إذ أن محيط الحياة خفي بالأمواج  و العواصف ، فكيف نعلم أن  بطيات الموج أمل أو سبيل  للنجاة !

كم كنت أتمنى  عند  خروجي من السجن  أن أراكم امام عيني ، ولكني الأن أراكم بالبصيرة. بعض الانفعالات التي تختلجني قد تسمو وترتقي فتمسىي أقوى من البصر، فعندما اخاطبكم بنور البصيرة ذلك النور الذي  ينبعث وهاجاً في القلب الذي  لن ينطفئ إلا بعد تسليم الروح حين ينقطع  النفس الذي أتنفسه وتنعدم الحياة. . .

 

لم أرغب  يا أبنائي  أن أكتب عن فقداني لتلك المرأة التي شاركتني في حياتي و التي فضلت الموت  كمداً عند دخولي إلى المعتقل على أن تبقى حبيسة حزنها و سجينة ألامها. تلك الزوجة التي لن يغيب عني ذكرها ولقد  سمعت من اخوتها ما ألم بها ،و كيف محى الفقدان سر بقائها حتى غزتها الأمراض دفعة واحدة و لم يستطيع ذلك الجسد النحيل و ذاك القلب المرهف  الذي امتلئ مودة وحبا أن يصمد فكانت نهايتها و نهاية قلبي الذي ملكته و اودعته أمانة في صدرها.

و مهما كتبت عنها فلن أوفيها قدرها فلا معنى لحياتي بعد فقدانها.  ولكن لا أريد اليوم أن أفسد فرحتكم بخروجي مع حسرات الماضي الحزين و على موت  ذلك الحضن الدافء الذي كان يضمنا ويجمعنا .

أحبتي لن يكون حديثي معكم حديث   مجاملة كالتعبير و الرسائل التي تكتب بين الصحاب و الرفاق ، إن الشعور بالشوق و الحنين لهو  تحصيل حاصل بين الأب و أولاده . فليس بمنكر أن سنين سبعاً لجديرة بأن تلهب قلبي و قلبكم لأنني منذ صغركم كنت اسقيكم بكؤوس الود الصافية النقية من نبع الصبر و الجهد والتعب  و مذاقها امال و أحلام  حلوة .

أذكر الأن . كم كانت حياتنا  مؤثرة من  يوم  مولد  كل منكم و الأيام والليالي الصافية السعيدة ، والساعات التي كنا نمضيها معاً ، كنت وامكم رحمها الله  نراكم تحت أنظارنا زهرات في حقول نضرة  وفي داخلنا تعيشون فلذات أكباد بين خفقات القلوب نبني أمانيكم  ونحلم بأن  تكونوا ذات يوم الفرحة الدائمة التي تظلنا،  عواطفنا كانت  دماً وروحاً فداء لكم.

شعور بالرضا والغبطة ينتابنا عندما تناموا و الإبتسامة  ترتسم على وجوهكم    . . .

نظرة الوالدين للأبناء ، وإرهاف السمع إلى أحاديثهم و الإمعان الى حركاتهم إحساس   يغمرنا دائما بالحنين  الغريزي فتكونوا دائماً محاطين منا بعواطف لايمكن وصفها  . .!

ولعلكم يا ابنائي  حين أذكركم  بذلك العهد السعيد الفائت لا ينبغي  أن أقطع نفسي وانفسكم حسرات و ألهب سعير الحزن و أشعل جمر الأسى ، وإنما أقصد الهتاف للحلم الكامن  في أعماقي وأعماقكم كي يبقى متقداً ولا يطفئه  اليأس و الخمود، فأنتم بدأتم الإجتهاد في ميادين حياتكم كي تؤدوا واجباً وجب عليكم ، وتقفوا مع بعضكم صفاً واحداً متراص تجاهدوا في سبيل احلامكم  وامنياتكم.

و الآن وقد انجلى الفجر البديع عن حياة جديدة و بدأت رحلة تكشفت عن وجهها و رفعت النقاب عن جمالها، يرافقها  الحنين إلى الماضي فهو  غذائنا و زادنا في هذا السفر الطويل إلى عالم لا نعرف اخر محطاته .

ذلك الحنين الذي  ما فارقني طوال فترة اعتقالي، وإنما كان معذبي ومسعدي معاً.

إن حبكم  كما تعلمون غلاب لا يقهر، نفاذ إلى الفؤاد  لا يتقهقر، وهو أقوى الرغبات وأشدها عذاباً، وأسبقها في النفس وجوداً، وهو مرآة عاكسة لحبكم، فإن من تربى  على الخير وحسن الخلق و تمسك بالعادات و القيم الأصيلة في مجتمعنا ، فهو إنسان راشد، يسير بخطى ثابتة و برأي صائب، أو عمل  نافع له و للبشرية جمعاء .

ابنائي

كل من في هذا الوجود يتبع هواه و ما تأمره نفسه  سواء  بالخير أو بالشر. ولكل فعل صورة ظاهرة في ضمير فاعله  تبدو لأعين الرائين له من الناس. كما أن النية تخفي الأفعال  التي لا تظهر ولا تنم ولا تبين. و أرق الصور وألطفها تلك الصورة المجبولة بحب الخير و المنفعة للبشرية جمعاء . فتكون  كبذرة خير غرست في أعماق الأرض ، فتنبت زهراً تعيش وتنمو  وتعطر الآفاق ، فيطول عمرها حتى تصاحب العمر إلى نهاية الأجل مادمنا نسقيها بماء الصدق و الإخلاص . . .

تلك الصورة الخالدة يا أحبتي هي صورة (الحب و الإخلاص ). . .

إن كانت تلك الصورة أمام أعيننا و نعمل بكل جهد من أجلها فإننا نعيش في قلب كل إنسان و تكون الفرحة قارب النجاة يحمل  قلوبنا  و يعوم بأمالنا في بحار  الصعاب  حتى يصل إلى بر الأمان ، ويرف شراعنا  و تعلو سارية الروح حتى تصل مداها.

و كم هي جميلة يا أحبتي عندما تكون الصورة محاطة ببرواز اللطف و والوفاء

 

فلا  نغدر أو نخون و نعاند صاحبا ولا نجادل أو نخاصم أبداً  نحاول جاهدين أن نتفق مع كل ذو فكر صعب أو نستوعبه ، و كل هذا سيقرب لكم جامحات الأمنيات  ويهون عليكم  بالغات الهموم و الأنات ، ويذلل لكم شاهقات الصعاب  .

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!